مقالات

اللغة .. اللغة يا عرب!

"اللغة مرآة حقيقة الوجود"

 د-مراد الصوادقي

مثقف باكستاني قال لي:"نحن نقدّر العرب لأن النبي عربي ونحترم العربية لأنها لغة القرآن, لكنني أصاب بالدهشة والإحباط عندما أرى العربي لا يعرف لغته ولا يهتم بها ولا ينطقها نطقا سليما, ولا يعرف أكثر مما أعرف عنها".

 وبهذا قد اختصر مشكلة العرب مع لغتهم.

هذا المثقف التقيته صدفة في مناسبة اجتماعية  ووجدته يتكلم العربية بفصاحة وينطق الآيات القرآنية بوضوح ودقة متناهية، واندفع يسائلني، ما كنت أعرف ما يريده، لأنه أخذ يتباحث معي في شؤون اللغة العربية وكأنه يمتحنني، وبعد أن تواصلنا في الكلام لما يقرب من الساعة نهض وصافحني وهو يقول " لقد أثلجت قلبي فالعربية بخير والدين بخير"  ولم أفهم قصده، لكنه أضاف "كلما التقيت عربيا حسبته عارفا بلغته، لكنني أصاب بخيبة أمل لأنني أجد نفسي أعرف أكثر منه وأنه يجهل لغته كثيرا، إلا أنت فقد أفحمتني وأدهشتني وأفدتني ..."

قلت ما الخبر أنا لم اقل شيئا غير مألوف ، قال والدموع تترقرق في عينيه "إن العرب لا يهتمون بلغة القرآن وبعضهم لا يحترمها وينكرها" .  قلت "وكيف توصلت إلى هذا الاستنتاج". قال "من خلال احتكاكي الطويل معهم".

وبعد أن ودعته رحت أتساءل عن أسباب هذا الانطباع السلبي عن العرب تجاه لغتهم من مسلم غير عربي، وتأملت أحوالنا، وحدقت في العرب من حولي، وعندما وضعت ملاحظاته في الميزان تيقنت بأنه قال الصواب الأليم. وأدركت أن العربي الذي لا ينطق العربية بفصاحة ونحوية مقبولة، لا يمكنه أن يقنع الآخرين بأنه يقرأ القرآن ويفهم ما فيه.

نعم يا أخي الباكستاني، إن العرب يهملون لغتهم وينفرون منها بل والبعض منهم يهزأ بها ويهينها وينطق بلغة أخرى لكي يحسب على العصر وأنه من المثقفين البائسين. وينسى هؤلاء أنهم يحرقون هويتهم ويهينون تاريخهم ووطنهم ويمحقون وجودهم من خارطة الحضارة الإنسانية. وقد صدقت بأن كل مَن عرفته منهم قد سخر من لغته وسقط في امتحانك اللغوي البسيط الذي يجب على خريج الابتدائية أن ينجح فيه. نطق كلمات وإعراب جمل وفهم معاني بعض الكلمات، والتعبير عن الفكرة بلغة عربية صحيحة, وهذه هي أبسط قواعد التفاعل اللغوي ما بين أبناء أية لغة.

وهذا يؤكد أننا أمام مأساة أجيال عربية تتناسى لغتها وتعجز عن التعبير عن أفكارها فيها، وتبتعد عنها وتعاديها إن صح التعبير، لأن الأنظمة السياسية العربية قد زرعت في أعماق النفس العربية الشعور المرير بالدونية وعدم الكفاءة، وزعزعت ثقة العربي بنفسه وبتأريخه ومعتقداته وكل ما يشير إلى عروبته وهويته، وحقنته بطاقة عالية على إنكار معاني وجوده ودوره الحضاري في الحياة. بل أنها ألغت حياته، ومنعته من التمتع  بغير الأحزان والمآسي والفواجع المتلاحقة بلا انقطاع.

فالأنظمة العربية قد شوهت معالم الوجود العربي وسخرت جميع الطاقات من أجل عبادة الكرسي العتيد، فتفرعنت وتمتعت بمذهب قارون وعقيدة الذهب اللماع. فأضاعت لسانها وفكرها وقدرتها على التعبير السديد، وهيهات أن تجد مسؤولا عربيا واحدا يستطيع أن يلقي خطابا بليغا ومؤثرا في الفكر والثقافة،هيهات، هيهات. وعندما نقارن خطب قادة العالم مع خطب قادتنا، نجد هذا الفرق الكبير. فالقائد في أية دولة تكون خطاباته في غاية الدقة البلاغية واللغوية والفكرية، حتى لتبقى راسخةً في قلب التاريخ، وتدرّس فصاحتها وبلاغتها في كتب اللغة كمثل في التعبير اللغوي المتميز . ولا يجوز لمسؤول في دولة أن يتحدث بلغة هابطة، أو يلقي خطابا غنيا بالعثرات والأخطاء اللغوية والبلاغية والتعبيرية واللفظية، مثلما يحصل عندنا.

إن المشكلة اللغوية التي نواجهها هي مشكلة سياسية قبل أن تكون تربوية وثقافية وقضية هوية ومصير، رغم استغراب البعض من ذلك، لكن الواقع يقول بأن الأمر سياسي، وأن الأحزاب الحاكمة والأنظمة السياسية العربية قد أسهمت في إضعاف اللغة عبر وسائل إعلامها وخطب قادتها التي لا تحترم لغة الضاد ولا تبصر بعيون الأجيال . وعندما يجد العربي مَن يمثله يتفاعل مع اللغة بعدم اكتراث وتجاهل لقواعدها وأصولها وكل معاييرها، فأنه يسير على ذات الطريق، وبهذا تكون الأجيال ضعيفة اللغة، وهذا يؤدي إلى ضعف الفكر والتفكير وعدم القدرة على الإبداع والفهم المنطقي المفيد. فلماذا لا يكون الاضطراب اللغوي عيبا سياسيا مثلما هو في المجتمعات المتقدمة، التي لو تكلم أي سياسي فيها بلغة ضعيفة لشهرت به جميع وسائل الإعلام ومسحته بالأرض.

إن ضبط اللغة نطقا ولفظا والالتزام بقواعدها وأصول ترتيب كلماتها، يعني ضبط التفكير والتفاعل الصحيح مع المحيط بمفرداته وعناصره المتحركة فيه، لأن أي تفاعل غير منظم لا يؤدي إلى نتائج ذات قيمة. وبما أن اللغة ضعيفة فأن التفكير ضعيف، وعليه فأن النتائج ضعيفة وضارة. فمن لا يعرف التعبير اللغوي السليم لا يمكنه أن يفكر بطريقة سليمة، فكيف يمكنه أن يحقق النجاح والتقدم ويبني معالم الحياة.

ولهذا نرى المجتمعات المتقدمة، تهتم بلغاتها أعظم الاهتمام وتعلم أبناءها ومنذ مرحلة ما قبل المدرسة، أساليب نطق الحروف وصياغة الكلمات، وتركيب الجمل والعبارات، وكيفية وضع الأفكار في صياغات الكلام لكي تكون الفكرة واضحة ومفهومة، والكلمات قادرة على التعبير عنها بلا تكلف أو اضطراب. لأن هذه المجتمعات تسعى إلى ضبط أصول وقواعد التفكير وغرس معايير النظام في أعماق أجيالها. فاللغة الدقيقة الواضحة تعلم البشر النظام، فعندما يكون تفكيرك منظما، فأن سلوكك سيكون منظما ومفيدا، ولا يمكنك أن تقبل بغير النظام.

وهذه العلة المتفاقمة في مجتمعاتنا، هي من أهم أسباب ضياع النظام واضطراب السلوكيات والتفاعلات ما بين أبناء المجتمع العربي. ولهذا فإن العودة السياسية إلى اللغة والتركيز عليها، وتدريس أبناءنا أصولها ومعاييرها ومعاني كلماتها، ستؤدي إلى تحقيق النظام والسعادة  الديمقراطية التي نتحدث عنها ولا نعبر عنها في سلوكنا، لفقدان أدوات التعبير عنها، وعلى رأسها اللغة العربية السليمة القادرة على حمل الأفكار والرؤى والتصورات. فلكي يكون المجتمع حضاريا ومتقدما لا بد من وعي لغوي متقدم وقدرة عالية على استخدام اللغة في التعبير، وبهذا ينحسر الغضب وتخمد العواطف ويتألق دور العقل والحكمة في صناعة الحياة واتخاذ القرارات. 

فاللغة جوهر القوة والحضارة وأصل التقدم والرقاء، ومَن أهان لغته أهان وجوده وانتهى في وادي النسيان.

فهل من همّةٍ يا أمة الضاد!                                

و"أنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" الزخرف 3

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org