مقالات

من الشعر النسوي الذكوري

 

محسن ظافرغريب
algharib@kabelfoon.nl

 "أمريتا بريتام" ابنة معلّم وشاعر بسيط وواعظ من طائفة السيخ، توفيت أمّها وهي في الحادية عشرة من مقتبل العمر، فانتقلت مع والدها إلى لاهور، وعاشت هناك حتى هُجّرت إلى الهند عام 1947م. وحوصرت بالمسؤوليات والوحدة بعد وفاة أمها، فبدأت تكتب بنفـَس ذكوري في سنّ مبكرة. نشرت أول دواوينها أمواج خالدة (1936) في سنّ 16، وهوالعام الذي تزوّجت فيه بريتام سنج، وحملت اسمه. أصدرت دواوينها الستة بين (1936 ـ 1943)، وبرغم أنها بدأت رحلتها شاعرة رومانسية، إلا أنها حوّلت الدفّة بعد انضمامها إلى حركة الكتّاب التقدميين فبان أثر من ذلك في ديوان لوعة الشعب (1944) الذي انتقدت فيه اقتصاد البلاد الذي مزّقته الحرب بعد مجاعة البنغال 1943. ثم عملت مذيعة بمحطّة لاهور، قبل انشطار الهند. طُلّقت 1960، فاستقالت من الإذاعة 1961، وصارت أعمالها أكثر نسويّة. ويبدوذلك جلياً في كثير من شعرها ورواياتها، بأُسٍ من تجربتها التعسة في الزواج. قضت باقي عمرها (40 سنة) مع إمروز، الفنان/ الكاتب الهنديّ، الذي صمّم لها معظم أغلفة كتبها، حتى توفيت وعمرها يناهز 86. وقد أصدرت 28 رواية، 18 كتاباً بمختارات من نثرها، 5 مجموعات قصصية، وسيرتان شخصيتان. أبرزها ما يلي:

الروايات: جلد على عظم ـ السرداب ـ أعشاب ـ دكتور ديف.

القصص القصيرة: نتن الكيروسين ـ زهرة برية ـ صاحبان بالمنفى.

الدواوين: أمواج خالدة ـ مرثاة فارس شاه ـ حياة غزيرة ـ من ورق لقماش ـ لوعة الشعب ـ الحصى ـ رسائل.

قِبلة الحجيج (1)

بحيرة قلبي كاملة مستديرة!

كم تحطّ أفكاري عنكَ في خفّة

على أمواهها، مثل بجعٍ مصفوف.

تبدوالطرقاتُ حولي وقُربي

غير تلك المتلاشية في الحلم

مغطّاةً بلمعةِ الزعفران؛

يهلّ الربيع على قلبي ببسمته الواهنة

فترةً، مثل عابرِ سبيلٍ،

ينهَلُ المزيدَ من مائه ثم يمضي.

تشرُع الشابّة هذه الليلةَ في ضَفْر شَعرِها،

مع أول شعاع من الشمس يثقُب الهواءَ

منطلقاً من قوسها الذهبيّ:

مهما حاول الفجر

سحن الحنّاء لأرضه، عروسه،

فهي تستحي من خِزي ملبسِ عُرسها

وقد بَلِيَ وتمزّق!

راحَ الحبّ الساذَج من هنا وهناك

ناثراً سِحره في كلّ موضعٍ

بنمط سلوكٍ لا يعرفه أحد؛

فأنهكني اقتلاعُ نبتة الشنبق (2)

من الرمال، بيدي المتعبة

حيث تنموهناك فحسب.

لم أعد أسمع صوتكَ ولا أثرَ

يدلّ على صورةٍ لوجهكَ الغالي،

لكن قلبي كامل وعجيب!

كلّ فكرةٍ عنكَ مثلَ بجعةٍ

تلقُط من عينَيّ لؤلؤ دمعي

المسيلَ في دفقٍ غير منقطعِ.

وقد صار الترقّب نفسه

جرحاً يواصل نزفه حثيثاً.

الندبة

(هكذا قال ابن امرأة خُطِفَت باضطرابات 1947،

التي صاحبت فجر الاستقلال في الهند وباكستان)

إني أنا أيضاً من فصيل البشر...

أنا أثر الجرح،

رمز الحادثة،

التي ضربَت كالقَدَر، في صدام

أزمنةٍ متغيّرة، جبينَ أمي.

إني أنا اللعنةُ

التي تُحدِقُ في إنسان اليوم.

حقّقتُ وجودي

بالنجوم وقد هَوَت

بالشمس وقد أُطفِئَت

بالقمر وقد أعتَمَ.

إني أنا ندبة الجرح

العَسَف الذي حاقَ بجسم أمي،

وطأة الوحشية التي قسراً

قيّدت أمي أشهراً.

وكان ثَقبا أنف أمي ينفثان

النَتَنَ من الداخل.

من يُقدّر

كم كان الأمر عصياً

أن نربّي البربرية في بطن امرئ

فتستنفدُ الجسمَ وتُحرق عظامَه؟

إني ثمرة من ذلك الموسم

حين أزهر توتُ الاستقلال.

عهد

محفورةً بخطوطٍ من اللوعةِ

راحة يدي وهي تحفظُ عهداً:

خطّ الوَعدِ يسبقُ

خطّ العمر.

تستفسر

كم يُعمّر حبّي.

فهل تعلَّم الحبُّ عادةَ الكلام،

مَن لم يتعلّم بعد، كيف يسمع؟

الحبّ يزهودون ثروة الكلمات.

تنفّسي تحت رحمةِ جسمي

وقد ينقطع أيّ وقت.

لكن نقوش حبنا

على صدر الزمن

لا يمحوها شيء.

هير(3) لم تقلّد ليلى،

ولا المجنون كان مثال رانجا.

فلا يُكرّر الحبّ قصّته

كلّ صفحة منه غِرٌّ لا شبيهَ له.

هوامش:

(1)- Mansorver: مكان هوقبلة الهندوس للحج المقدس. (م)

(2)- Champak:نبات صحراوي، أصفر الزهر. (م)

(3)- للهندوس أربع غراميات رومانسية قديمة، شبيهة بغرام ليلى والمجنون العربية: هير ورانجا ـ صاحباه وميرزا ـ ساسي وبونون ـ ماهيوال وسوهني. (م)

سهامُ اللوعة

تثقب راحتي ثم أطراف أصابعي؛

لكن فوق أهداب ثوبي الممزّق

أملٌ يستثيرُ الحياةَ.

أقسم بالصبح الأرجوان

أن موجَ شنابَ() ليس نهايتي.

محفورةً بخطوطٍ من اللوعةِ

راحة يدي وهي تحفظُ عهداً:

خطّ الوَعدِ يسبقُ

خطّ العمر.

عذراء

حين انتقلتُ إلى فِراشكَ،

كنتُ وحدي ـ كنّا اثنين،

امرأةٌ تزوّجَت وعذراءُ

تنامُ معكَ، وعليّ أن أُقدّم

العذراء فيّ، وقدّمتُ...

مذبحةً يبيحها القانون، لا

مذلّةَ فيها، ثم حملتُ

ضراوةَ المذلّةِ الصباحَ التالي،

تطلّعتُ في يَدَيّ ببُقعٍ من

دمي، فغسلتُ اليدين، لكن

لحظةَ وقفتُ أنظر في المرآةِ

لقيتُها واقفةً هناكَ،

مَن ظننتُ أني ذبحتُها ليلةَ أمسِ
باسمِ الله!
فهل كانت الدنيا عتمةً بفِراشكَ،
حيث كان حَرِيّ بي أن أقتل واحدةً،
فقتلتُ أخرى؟

أغنية إلى فارس شاه
أدعوكَ اليومَ، يا فارسَ شاه،
أن تتحدّث من قبركَ،
فابنة البنجاب التي بكت
وسطّرْتَ لوعتها بملحمةٍ ملتاعة،
استحالت الآنَ ملايين البناتِ
الضارعاتِ إليكَ: قُم، يا فارس شاه!
يا ساردَ الحزنِ، قُم!
ادعُ من اقتسموا القلوبَ الأثيمةَ
أن ينظروا إلى البنجاب:
جثثٌ مطبوخة في الحقولِ،
ودم يسري في نهر شناب!


أجرة يومية
بمنطقة من السماءِ فقيرةٍ
يصفّرُ الليلُ
فتدفُقُ مِدخنةُ القمرِ دُخانَها الأبيضَ الكثيفَ.

إطفائيُّ الأحلامِ
يجرفُ أورامَ الرغبةِ السوداءَ،
فيملأ الليلَ بقوتهِ الداكنةِ
بفيضٍ من الجُهدِ والعَرَق
حتى يبلغَ قلبَ النارِ
فتنالَ المرأةُ حظّّها من الرجلِ وتطحنهُ
كعاملِ مزرعةٍ جالسٌ منتصباً
برغيفٍ مع بصلةٍ في يده
يطحنُ وجبتَه المسموحَ بها مرةً،

تملأ آنيتَها الفارغةَ بالأحلامِ
وهي تغلي لتنضجَ على النار
فتلتهم مثلَ حيوانٍ
تلحسُ الآنيةَ ثم تطرحُها
لتُدفئ يديها فوق هامدِ الرمادِ.

بمنطقة من السماءِ فقيرةٍ
يصفّرُ الليلُ
فتدفُقُ مِدخنةُ القمرِ دُخانَها الأبيضَ الكثيفَ،
تتثاءب المرأةُ، تحمدُ الليلَ على أُجرةِ يومها

وتتمتمُ
ما أكسبهُ آكُل بهِ
لا حبةَ رزّ من أواني أمسِ
ولا شفرةَ عُشبٍ من نارِ المستقبلِ.
ترجمة: محمد عيد إبراهيم

* * *

الشعر النسوي الفارسي

سبق الشعر النسوي الفارسي مولد دولة الجمهورية الإسلامية الأيرانية على أرض فارس كان توطئة للثورة الشعبية (الشيعية الإسلامية) صيف 1978م التي توجها بعمامته وبالنصر ربيع العام العام التالي، مؤسس "الجمهورية الإسلامية الأيرانية"، آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني، الولي الذكوري الذي خلف سنة 2009م، جيل الثورة (بجهاي إنقلاب!)، تلك الولاية عندما طوى الردى ندى، إحدى بنات ذلك الجيل، وهي تتظاهر ضد خليفة الداعية الداهية والشيبة الهيبة الإمام الخميني الذي تجاوزته سنة الحياة، فضلا عن كون خليفته (خامنئي)، يعلوبنفسه على معاصرة الدولة الملعونة الحسناء الرعناء، رغم مطارحته الموسيقى الهوى، ونظمه كالخميني الشعر الصوفي الذكوري، مع ظهور الشعر النسوي الفارسي الإيراني، ممثلا بريادة شاعرات شهيرات كشمس كسائي (1883-1961)، وبروين اعتصامي (1907-1941)، وطاهرة صفا زادة (مواليد 1937)، و"فروغ فرخزاد" (5 ك2 1935م — 14 شباط 1967م) أخت المغني والشاعر والناشط السياسي فريدون فرخزاد، لم تشهد مولد الجمهورية الإسلامية الأيرانية، فكان الشعر النسوي الفارسي الإيراني، ابن بيئته الذكورية الأبوية!. بعد كتاب امرأة وحيدة- فروغ فرخزاد وأشعارها (تشرين الاول2007) لمايكل هلمان (ترجمة بولس سرّوع ومراجعة فكتور الكك)، الكتاب الذي يتتبع فيه أستاذ الفارسية في جامعة تكساس- أوستن والمتخصص في الأدب الفارسي المعاصر، حياة فرخزاد وسط محيط اجتماعي محافظ ومتشدد في بعض الأحيان، إضافة لقراءة أدبية وسيسولوجية لأشعارها، يأتي كتاب الأسيرة (نيسان2009)، وهوعنوان المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة، والتي نقلها إلى العربية خليل علي حيدر (مراجعة نرجس كنجي وزبيدة علي أشكناني). وكان الشاعر والمترجم الإيراني موسى بيدج نقل مختارات من الشعر الإيراني الحديث (تشرين الاول2008) إلى العربية، تضمنت عدداً من قصائد فروخ فرخزاد. للمرة الثانية يخصص المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، إصداراً عن الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد. يعرّف المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، القارئ العربي بشاعرة لطالما شكلت قصائدها وحياتها طريقاً لأخريات سواء في الشعر أم في أسلوب العيش.

عند الحديث عن فروغ فرخزاد يحضر دائماً الموضوع الاجتماعي. لا يمكن فصل قصائد فرخزاد عن المضمون الاجتماعي الذي تضمنته هذه القصائد. إنها قصائد تحريضية في المقام الأول، نسوية في المقام الأخير. تمحور مضمون أشعار فرخزاد حول التحرر الاجتماعي سيما التحرر النسوي. أن الشاعرة سعت لاحقاً إلى نزع هذه الصفة النسوية عن شعرها لكن أي قراءة لهذه القصائد في سياقها التاريخي لا بد من أن تقود لموضوع تحرر النساء في بلد محافظ، رغم أن الشاعرة عاشت وماتت قبل قيام الثورة الإسلامية سنة 1979. كي نقف على الجانب النسائي في شعر فرخزاد لا بد من الإضاءة على حياتها الصاخبة والقصيرة.

في طهران ولدت "فروغ فرخزاد" لعائلة عسكرية محافظة اجتماعياً وبيئة متشددة دينياً ومجتمع بطريركي أبوي ولها 6 أشقاء. والدها الذي كان ضابطاً في الجيش لطالما ضيّق عليها وحدد تصرفاتها رغم أنه كان مثقفاً وقارئاً جيداً. أستكملت دراستها حتى الصف 9 وحين أتمت عامها 16 تزوجت من برويز شابور. أكملت فروغ دراستها عبر دروس الرسم والخياطة ثم انتقلت مع زوجها إلى الأهواز وبعد عام رزقت بولدها الوحيد (كتبت فيه " قصيدة لك"). بعد أقل من عامين حدث طلاقها وحصل طليقها على حضانة الإبن ما دفع فروخ لإكمال مسيرتها الأدبية. عادت إلى طهران لكتابة الشعر وأصدرت أول ديوان لها في عام 1955 بعنوان الأسير.

جذبت فروخ الإنتباه والرفض من مجتمعها كمطلقة تحمل أفكار نسوية جدلية. عام 1958 قضت 9 شهور في أوروبا قابلت خلالها المنتج والكاتب الإيراني إبراهيم جولستان. نشرت ديوانين آخرين بعنوان الجدار والثورة وذلك قبل ذهابها إلى تبريز سنة 1962 لتصوير فيلماً عن الإيرانيين المصابين بالجذام بعنون "البيت أسود" وفاز بجوائز عالمية. وفى العام التالي 1963 نشرت ديوان "ميلاد جديد" والذى كان علامة في تاريخ الشعر الحديث بإيران.

توفت فروغ في حادث سيارة عنن عمر 32 عاما ونشر لها بعد وفاتها قصيدة بعنوان "لنؤمن ببداية موسم البرد" وتعد أقوى القصائد في الشعر الفارسي الحديث. العلاقة الملتبسة بالوالد أفضت لصطدمات عنيفة معه دفعت الابنة لاتخاذ قرارات مصيرية كان أولها الزواج من أحد أقاربها برويز شابور الموظف في المالية ورسّام الكاريكاتور، وإن كان أتاح لها فرصة التحرر من الوالد، لم يمنحها الحرية التي سعت إليها والتي كانت تخرّب عليها حياتها. هذا الزواج الذي أثمر ولداً أسمته كاميار، انتهى بالخيانة. بحسب المعلومات التي استقاها دارسوالشاعرة ومؤرخوحياتها أقامت فرخزاد علاقة مع محرر مجلة روشنفكر ، المجلة التي نشرت فيها أولى قصائدها سنة 1953. هذه الخيانة تعترف فيها الشاعرة بطريقة مواربة حين كتبت قصيدتها الخطيئة التي تضمنها ديوانها الأول الأسيرة . هكذا تركت فرخزاد بيت زوجها لتعود إلى منزل العائلة وتسكن في غرفة وحدها محاولة الاستقلال ولوبطريقة شكلية. لكن طلاقها حرمها من ابنها كاميار، الأمر الذي جعل حياتها مأساة متواصلة، ما جعلها تتبنى ولداً لأبوين مصابين بالجذام، وذلك إثر الفيلم الذي صوّرته عن مرضى الجذام بعنوان البيت أسود والذي نال جائزة في ألمانيا. قيل كانت العلاقة مع محرر روشنفكر بداية أولى لعلاقات متحررة أخرى، كان أبرزها العلاقة التي استمرت ثماني سنوات مع الصحافي والمترجم والقاص وصاحب إحدى الشركات السينمائية إبراهيم كليستان. لقد سحر كليستان بعلمانيته وليبراليته وثقافته الحديثة فرخزاد فأقامت معه هذه العلاقة العلنية رغم أنه متزوج ولديه أولاد. ومن خلاله تعرفت إلى السينما فأخرجت عدداً من الأفلام، إضافة إلى عملها في المسرح والرسم. كما أقامت علاقة مع الشاعر المعروف نادر نادربور، وهوشاعر معاصر عاش في باريس ويعدُّ واحداً من الشعراء البارزين في المشهد الشعري الإيراني.

لم يقتصر تحرر "فروغ فرخزاد" على إقامة علاقات عاطفية خارج مؤسسة الزواج في مجتمع يوصف بالتدين، وإنما كانت آراؤها الحادة في الوسط الثقافي تعبر عن ثورية رومانسية وحالمة. لقد قادتها مواقفها إلى عداوات مع شعراء كبار في إيران، شعراء لطالما وصفتهم بعدم الصراحة والتخفي ومداراة المحيط وعلى رأسهم الشاعر البارز أحمد شاملو. في كل حال، لم تكن فرخزاد، هذه الشعلة العابرة وطويلة الأثر، منسجمة مع حياتها. نشرت في حياتها أربع مجموعات شعرية هي الأسيرة ، جدار ، عصيان وميلاد آخر (نشرت مجموعة لها بعد موتها بعنوان فلنؤمن بقدوم فصل قارس )، إليها الاعتبار حين تبارت الصحف والمجلات في تخصيص ملاحق وأعداد خاصة عنها.

تأتي أهمية فروغ فرخزاد من كونها أول شاعرة عبّرت عن المرأة الإيرانية بشكل واضح ومباشر. كانت فروغ أول شاعرة تقول هذه الأنا النسوية من غير أن تقصد- ربما- إحداث ثورة اجتماعية. كانت تعبّر عن نفسها فحسب: إذا كان شعري يتضمن درجة من الأنثوية فهذا أمر طبيعي بسبب كوني شخصياً امرأة. أنا سعيدة لكوني امرأة. لكن إذا كان المعيار المستخدم هوالقيمة الفنية، عندئذ لا أعتقد أنه في إمكاننا اقتراح الجنس كعامل محدد. ولا تجدر بنا مناقشة هذا الأمر في المقام الأول. من الطبيعي أن تركز المرأة بسبب صفاتها الجسدية والعاطفية والنفسية، على مشاكل قد تكون غير ملائمة للنقد من قبل رجل. والرؤية النسائية تتعلق بمشاكل تختلف عن تلك المتعلقة بالرجال... إذا كنت أعتقد أنني بصفتي امرأة يجب أن أتحدث عن أنوثتي طوال الوقت فإن هذا سيشير إلى نوع من الركود وقلة النضج، ليس فقط كشاعرة بل كإنسانة ( امرأة وحيدة- فروغ فرخزاد وأشعارها ص 126). هذه الطريقة العفوية في التعبير عن الأنا النسوية، تحوّلت إلى مذهب شعري لدى الشاعرة. أي ان فروغ فرخزاد كانت أول من جعل المسافة بين الشعر والحياة واهية ليس على صعيد الشعر النسائي وإنما على صعيد الشعر المعاصر بشكل عام في إيران. لقد استمدت شعرية فرخزاد أهميتها ليس من منطلقاتها الاجتماعية ودعواتها التحررية فحسب وإنما من أسلوبها البسيط، السهل، المستمد من حياة الشاعرة نفسها. هذا الأسلوب من حيث اختيار المفردات والصياغة الشفوية، وهذه الموضوعات اليومية المأخوذة من واقع العيش نفسه، لن تلبث أن تصبح اتجاهاً شعرياً في إيران، الاتجاه نفسه الذي غزا العالم بأسماء مختلفة تحت عناوين مثل القصيدة اليومية وقصيدة التفاصيل وقصيدة الهامش والقصيدة الواقعية الجديدة. هكذا أصبحت فرخزاد في لحظة تاريخية ملهمة نسائية وملهمة شعرية في آن.

إذا كانت مجموعة ميلاد آخر تشكل نقطة تحول في شعر فروغ فرخزاد، فإن مجموعاتها الثلاث الأول لم تكشف عن دربة كبيرة في كتابة الشعر، ولا سيما ديوانها الأسيرة الذي نشرته وهي في سن العشرين (صيف 1955). ويضم الديوان 44 قصيدة تدور معظمها حول موضوعات الحب من ألم وتمرّد وشوق وصبر وهجران ومرض وعزلة. لم يشكل هذا الديوان المبكر علامة فارقة في شعرية الشاعرة وفي المشهد الشعري الإيراني الحديث. لكنه في الوقت نفسه امتاز بجرأة كانت نادرة في ذلك الوقت في المجتمع الإيراني ولا سيما أنه صادر عن امرأة. فقد اعتبرت قصائد البوح في هذا الديوان شجاعة ليس من السهل الإقدام عليها من قبل رجل فكيف بامرأة؟ مع ذلك اعتبر الديوان وقتها مؤشراً على ولادة شاعرة كما رأى شجاع الدين شفا الذي قدّم للديوان. لكن فرخزاد ظلت تنمّي تقنياتها وملكتها الشعرية التي شهدت نضجاً في كتابها الرابع ميلاد آخر الذي راحت جملها فيه تأخذ ترميزات عميقة وتضمينات ثقافية تجاوزت الأدب إلى الفنون الأخرى التي عملت فيها الشاعرة. مع ذلك يمكن القول إن مجموعتها الثالثة عصيان تعدُّ نقلة أولى لما تضمنته من تأثرات بعمر الخيام والقرآن والأدب الفارسي الكلاسيكي عموماً، إضافة إلى أثر نيما يوشيج أبي الشعر الفارسي المعاصر، والذي كانت فرخزاد تقدّر شعره كثيراً، مع الأخذ في الاعتبار أن شعرها كان خلافاً للشعر الفارسي العرفاني والديني والميتافيزيقي غالباً.

يضم ديوان الأسيرة في ترجمته العربية مقدمة المترجم، ومقدمة الناقد الإيراني بهروز جلالي، إضافة إلى مقدمة الطبعة الأولى للديوان بالفارسية بقلم شجاع الدين شفا.

تبقى الإشارة إلى جفاف الترجمة في بعض المواضع، ولا سيما أن ترجمات أخرى للشاعرة صدرت بالعربية كمقتطفات في مختارات من الشعر الإيراني الحديث لموسى بيدج، وامرأة وحيدة- فروغ فرخزاد وأشعارها لمؤلفه مايكل هلمان. وفي هذا الكتاب الأخير يمكن للقارئ المقارنة بين ترجمة خليل علي حيدر لديوان الأسيرة وبين حلاوة ترجمة فكتور الكك لعدد من قصائد الشاعرة.

ترجمة: حميد كشكولي من الفارسية. ملاحظة: لا تجوز إعادة نشرها، وأية استفادة أخرى منها بدون ذكر اسم المترجم حميد كشكولي ، والمصدر " الحوار المتمدن".

ميلاد آخر

كياني كلّه عبارة عن آية الظلمات،

أية ٍ سوف تحملك في ذاتها , وستأخذك مرارا إلى سَحَر التبرعم والنموالأبديين.

لقد تأوهتك في هذه الآية ، آهات ٍ،

في هذه الآية، طعّمتك بالشجرة والماء والنار.

فالحياة ريما عبارة عن شارع طويل تمضي عبره كل يوم امرأةٌ تحملُ زنبيلا،

لعل الحياة حبل ٌ يعلق به رجل نفسه بفرع شجرة،

ومن المحتمل أن تكون الحياة طفلا يعود من المدرسة،

ويجوز أن الحياة هي أن تولع النار في لفافة تبغ في فترة كلل بين حضنتين،

وأن تكون عبورا دائخا لعابر سبيل،

يرفع قبعته، محييا عابر سبيل آخر ببسمة فاترة، مخاطبا إياه: صباح الخير!

لعل الحياة هي لحظة ممنوعة حيث نظراتي تخرب في شعاع عينيك،

وفي هذا شعور سأخلطه بملاحظات القمر وبصيرة الظلمة.

في غرفة بسعة التوحد،

يحدق قلبي الذي له أبعاد العشق:

في الحجج الساذجة لشعوره بالسعادة،

في الأفول الجميل لأزهار الأصيص،

في شتلة زرعتََها يوما في حديقتنا،

في أغنية الكناري اللاتي يغنين بمقدار نافذة.

آه...

هذا هونصيبي

هذا هونصيبي

فنصيبي سماء يحرمني منها إسدال ستارة ما،

نصيبي هوأن أهبط من درج مهمل،

أن أرتبط بشيء ما في التهرؤ والغربة.

إن نصيبي هوتجوال حزين في بستان المذكرات،

وأن أحتضر في ألم صوت يقول لي :

أحب ّ يديك،

أزرع يدي ّ في البستان،

سوف أخضر ّ، فأنني أعرف، أعرف ذلك،

وإن السنونوسوف تضع بيضاتها في أخاديد أناملي الملطخة بالحبر،

سأعلق قرطين بأذنيّ الاثنتين،

كرزتين توأمين حمراوين،

وألصق بأظافري أوراق ورود الدهلية.

ثمة زقاق ،

حيث أولاد عشقوني،

لا يزالون، بشعرهم الأشعث، ورقابهم الرفيعة، وأقدامهم النحيفة،

يفكرون في بسمات بريئة لفتاة أخذتها الريح ذات ليلة.

ثمة زقاق سرقها قلبي من أحياء طفولتي.

إن ّ رحيل فضاء ما على سكة الزمان،

هوأن تصير سكةُ الزمان اليابسة حبلى من بذور الفضاء،

فضاء من صورة واعية،

فضاء يرجع من حفلة في مرآة.

هكذا

ثمة من يموت،

وثمة من يعيش،

فلا يصطاد أي ّ صياد لآلئ في ساقية حقيرة تصبّ في حفرة.

أنا أعرف حورية صغيرة حزينة تسكن أحد المحيطات،

تعزف قلبها بتؤدة في فلوت خشبي،

حورية صغيرة حزينة تموت ليلا بقبلة،

وتولد في الفجر بقبلة أخرى من جديد.

***

لقد كنت في جمعية الشعراء الموتى ،حيث خاطبتني:

أنا ثمرة معاشرة قفصين،

حين أرتني قفصها ، عرفت قفصي، وضعت رأسي على قبرها، واستلقيت على الأرض.

خجلت النجوم مني، حين واءمت الموت بفكرة الموت، قالت،

إن الجماجم أضحت ْ أرحم ، فوق جناحيها،

أجل ، ارحم!!

***

عادت الآن، في هذه الليلة الساكنة،

أسوارالفصل،

أسوار الحدّ ،

لتنمومرة أخرى ،

مثل الحشائش ،

لكي تصبح حارسا على مزرعة عشقي.

والآن تقوم فوضى المدينة مثل سرب أسماك مرتبكة بمغادرة ظلمات شواطئي ،

الآن تنفتح النوافذ مرة أخرى في لذة تماس العطور المنتشرة.

الآن تقوم الأشجار في البستان الغافي بالانسلاخ عن جلودها،

ولا تتوقف التربة عبر آلاف المنافذ عن جذب ذرات القمر الدائخة للأعماق.

تقدّمْ مني الآن!

استمع ْ إلى خفقات العشق المضطربة ، التي تنتشر مثل ضربات طبول الأفارقة،

في صيحات قبيلة أعضاء جسدي !

إنني أشعر ،

إنني أعرف أية لحظةهي لحظة الصلاة،

فالآن ستتضاجع النجوم كلّها.

أنا بجنب الليل، أهب ّ ُ من نهايات النسمات،

أنا متكئة على الليل،

أتهاوى بضفائري الثقيلة كالمجنون في راحتيك،

وأقدّم الأزهار الاستوائية من المناطق الدافئة الفتية هديّة إليك.

تعال معي!

تعال معي إلى تلك النجمة!

إلى تلك النجمة التي ظلت بعيدة منذ آلاف السنين عن تجمد التراب ونواميس الأرض البالية،

حيث لا يخاف أي واحد من النور.

أنا أتنفس في الجزر العائمة على الماء،

أنا أبحث عن وصلة من السماء الواسعة

خالية من تراكم الأفكار الوضيعة.

ارجع معي ! ارجع معي!

إلى ابتداء الجسد،

إلى مركز معطر لنطفة ما،

إلى لحظة خُلقت ُ فيها منك.

ارجع معي !

فأنني دونك أبقى غير مكتملة،

الآن تطير الحمائم من قمم صدري ،

الآن فراشات القبل الهائمة بين رموش شفاهي غارقة بالتفكير بالهروب،

الآن محراب جسمي يهم بالقيام بفعالياته.

عد ْ معي

فأنا لا أقوى على الكلام ،

لأنني عاشقة،

ولأن كلمة " أحب ّ" تأتي من عالم العبث والتهرؤ والتكرار.

ارجع معي !

أنا عاجزة عن الكلام.

فدعْني أحمل ُمن القمر، متكئةً على الليل!

دعني أمتلئ من قطرات المطر الصغيرة،

من القلوب الفتية،

من فضاء الأطفال الذين لم يولدوا بعد!

دعني أحبلُ،

لعل عشقي يصبح مهد َ ميلادٍ لعيسى آخر !

من مجموعة " تولدي ديگر" .. ميلاد آخر

***

نافذة للرؤية،

نافذة للاستماع،

ونافذة مثل فوهة بئر تلمس نهايتها قلب الأرض،

وتشرع في وجه اتساع هذا الحنان المكرر ذي اللون الازرق المائي .

نافذة تملأ أيادي التوحد الناعمة

بالعطايا الليلية لعطور النجوم الكريمة،

ويمكن من هناك استضافة الشمس في غربة الأزهار الشمعدانية.

نافذة واحدة تكفيني،

أنا آتية من ديار الدمى،

من ظلال الأشجار الورقية في بستان كتاب مصوّر،

من المواسم اليابسة لتجارب الحب ّ والصداقة العقيمة في أزقة البراءة الترابية.

أنا قادمة من سنوات نضوج ّ حروف الأبجدية الكالحة وراء طاولات المدرسة المسلولة،

من لحظة استطاع فيها الأولاد أن يخطّوا على اللوح كلامَ الصخر،

ورفرفت الزرازير مغادرة ً الشجرة المعمّرة.

أنا آتي من بين جذور النباتات آكلة اللحوم،

ولا يزال دماغي تملؤه أصوات وحشة فراشة ٍ كانوا صلبوها بدبوس في دفتر.

حين كانت ثقتي تتدلى من حبل العدالة الواهن،

وكانوا ينهشون قلب قناديلي في كل أنحاء المدينة،

عندما كانوا يعصبون عيون عشقي الطفولية بمنديل القانون الداكن،

ومن صدغي رغباتي المضطربتين تتدفق نافورات الدم،

وحينما لم تعد حياتي شيئا سوى دقات الساعة الجدارية،

أدركت ُ أنه يجب ويجب ويجب أن أعشق بجنون.

نافذة واحدة تكفيني،

نافذة في لحظة الوعي والرؤية والسكينة.

والآن فقد بسقت شتلة الجوز حيث تشرح الجدار َ لأوراقها اليانعة.

سل المرآة من هومنقذك،

أليست الأرض التي ترتعش تحت قدميك ، أكثر توحدا منك؟

هل جاء الرسل برسالة الخراب إلى عصرنا؟

وهل أن هذه التفجيرات المتعاقبة، والغيوم السامّة، هي دويّ الآيات المقدسة؟

فيا صديقي!

ويا أخي !

ويا قريبي!

عندما تصل القمر، دوّن تاريخ مجزرة الورود!

إن ّ الأحلام دوما تسقط من علوسذاجتها ، وتموت.

إنني أشم ّ الشبذر رباعي الأوراق النامي على قبر المفاهيم القديمة،

فهل ترى أن امرأة استحالت إلى تراب في كفن الانتظار والبراءة، كانت شبابي؟

وهل سوف أتسلق ثانية مدرجات فضولي إلى الأعالي،

لكي ألقي سلاما على الإله الطيّب الذي يتمشى على سطح البيت؟

أشعر أن الزمن قد مضى،

أشعر أن اللحظة هي حظي من أوراق التاريخ.

أشعر أن الطاولة َ هي تناء ٍ زائف بين ضفائري وأيادي هذا الغريب الكئيب.

قل ْ لي ،

وما الذي يبتغيه منك شخص يهبك حنان جسد مفعم بالحيوية, سوى إدراك الشعور بالحياة؟

قل ْ شيئا !

إنني بجنب النافذة،

تربطني صلة بالشمس.

• من مجموعة" لنؤمن ببداية فصل الزمهرير"

• ايمان بياوريم به آغاز فصل سرد.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org