مقالات

آرام ديكران .. أحد أعظم عمالقة الغناء الكردي الأصيل وداعاً 

إبراهيم اليوسف

لعلّ جيلنا الذي وجد في – المذياع- الوسيلة الإعلامية الأُولى لتواصله مع العالم، وبخاصة نحن معاشر أبناء الرّيف- آنذاك- الذين لم نكن – في ستينيات القرن الماضي- لنتواصل مع – الصّحيفة- أو المجلّة – إلا لماماًعن طريق المصادفة، المحض، وكنّا نجد في جهاز- الترانزستور- الراديو، ذلك الصندوق العجيب الذي كان يترنّم، فيسترق إليه الكبارالسمع، كي يقع على آذانهم مجرّد خبر، عن الكرد، وثورة البارزاني،نجا من التشويش والتغبيش المتعمدين، يتبارون إلى الإنباء به، ما أن يضمّهم مجلس القرية الكبير.

 

 ووسط هذا التعلّق بالرّاديو من قبل الكبار، كان لنا أن نسرق هذا الجهاز الغرائبي من ذوينا،أنّى كتب لنا ذلك، بعد أن تخفّ الحراسة عليه، نترنم له بنشيد عن ظهر قلب استظهرناه*، ندير مفتاحة- أذنه على غير إذن- على امتداد الثلاثمئة والستين درجة، عسى أن نفلح بسماع أغنية، نشتهيها، بلغتنا الأمّ، بين سيل وهدير الإذاعات الهائجة، التي كانت تبثّ أصواتاً مختلفة، وموسيقى متنوعة، و تقدّم مغنين ومغنيات،بلغات العالم، أجمع، بعيداً عن رصانات مجالس هؤلاء الكبار الذين كانت هيباتهم، تمارس سطوتها على – المذياع-أنّى اجتمعوا في مضافة القرية، أو بهوها، خارج الوقت الذي يطلب فيه الحديث من أبي، الذي كانت أصبعه على قرص مفتاح المذياع، يحجب صوت الموسيقا، ويطلق عنان صوت الغناء، كي أسأله: لم هذا ؟قبل أن نقتني الفونوغراف- الحاكي- ونتبادل الأسطوانات القليلة التي يملكها كل من قلة نقتنيها، كان آرام يحتل مملكة إحداها، دون منافس، قبل أن يسجل- المسجل- انتشاره الهائل شرقاً ومغرباً، فلا يكاد يوجد من لا يقتنيه،وهو – تحديداً- قبل تعرفنا اللاحق بالتلفاز الذي سيدخل بيتي متأخراً، قياساً لعجلات اللحظة .

فيقول لسان حاله : صوت الغناء مباح، والموسيقا محرّمة،كي يسبق المغني، في لحظة اندغام،شهية،خارج وقاره، لا يعرفها إلانا، والمحرّم الّلذيذ- هنا- يذكرني بأشياء كثيرة، منها رسوم الشخوص المذبوحة في دفتر الرسم، خارج مناظر الطبيعة، والجّمادات، بل وعيون الحسناوات، وروائحهن الماتعة .

-ber çem ber çem diçûme

أو:ey dil ey dil dilo lo

من الأغاني التي سأسمعها، وأحاول أن أستظهرها،لأردّدها- و بصوتي المتكسّر- مدندناً بها، بزهو طفولي، على مسامع أقراني، كأغنية جديدة- وأنا أتوغّل في لجج هذا المحرّم المخيف-لأجد أنّ سواي يجيد غناءها بأكثر منّي، ما يدفعني لأولف أغنية على غرارها، في إهاب لحن، لن يتقبله سلّم موسيقي، كي أتغلّب على من حولي، كما سيخيل إلي، لبرهاتٍ جميلةٍ، في تلك الطفولة المبكّرة:

 هذا آرام خجادوريان...!

-هذا آرام ديكران...!

هذه عيششان...!

هذا عيسى برواري..!

هذا سعيد يوسف...!

هذه شيرين ..!

هذا محمد شيخو...!

 وتطلع الأسماء،كما – كمّآت القرية- الواحد تلو الآخر، قارات جديدة نكتشفها،لتتكون القائمة لدى كلّ منّا، كي نعرف في ما بعد بعضاً عن حيوات هؤلاءالفنانين الأعلام، ذوي القامات العالية، الظليلة،وسواهم، كل على حده، ولنعرف أن الفنان خجادوريان فنّان عالمي، وهو من هؤلاء الذين أوصلوا الأغنية الكردية إلى مصافّ العالمية، إلى جانب لغات أخرى، عرف بها، ولنعلم أن سميّه: آرام ديكران ابن قامشلي، وأنّه أحبّ الغناء بالكردية، وأنّ هذا ليس محض مصادفة، بل نتيجة علاقة عريقة بين هذين الشعبين اللذين عاشا إلى جوار بعضهما بعضاً، في أمان، إلى أن خطط الأعداء للإيقاع بينهما، ضمن لعبة قذرة على أعتاب العام1915، راح ضحيتها خيرة أهلنا الأرمن- على أيدي الضيوف الثّقلاء- والذين كانت لغتهم الكردية، هي الأولى أو الثانية، قبل أن تبدأ ألاعيب ابتلاع اللّغات والأمكنة والشعوب، ويكون ضحية ذلك : الكرد والأرمن، على حد سواء، في مخطط لمحو وجودهم أجمعين، وإن كان الكردي فارس الشرق، فتلك- لعمري- شهادة " أبو فيان" وهو الأرمني تحدراً ورؤى .

 ولكم كان آرام ديكران، سفير لحظاتنا الجميلة،ثالثنا، إزاء رسم الحبيبة في المخيّلة، حيثما خرج من إطار الصندوق الخشبي، يشبه صورته التي سنحصل عليها، تالياً، ينطق باسم مكنونات الخافق، نحمل صوته الواثق الهادر، بقايا وجد في الدم والرّوح، يجنّح الأحلام، وهو يرسم بصوته العذب عوالم رائعة،إلى جانب قلة من فنانين جد مائزين، ممن يغنّون بالكردية، كي تحفر أسماؤهم في صفحات الخلود.

 وآرام،أرمنيّ الأرومة، كردي الرّوح، والمنى، والفنّ، والهوى، لا يزال يبني جسور التواصل بين شعبيه: الأرمن والكرد على حدّ سواء، ولكم كنت أودّ حذف ما بينهما من واو عاطفة، ليكون لذلك أكبر دلالة على إخاء هذين الشعبين،اللذين ذررتهما – في آن واحد- مصالح الأمم، وما زالا يلعقان آلام خريطتهما المضيّعة، وهو ما يجب أن يحدو بالكرد والأرمن – على حد سواء- لأن يستفيدا معاً من رسالة ديكران،هذا الإرث المشترك العظيم، وهي رسالة الآباء والجدود، من الأرمن والكرد، خارج سدود المصالح، وفنون التذويب،الممنهجة،على أيدي مهرة الفرقة، شذّاذ الشرق العظيم، بحق كليهما، وهنا أشير إلى "الشخوص" السدنة، الأفّاكين، من تدنست أياديهم بالدم، وأرواحهم بقيء الضغينة، وليس "الشعوب"، لأن تخيّر ديكران للغناء بلغة روحه، اللّغة الكردية،الأمّ، إلى جانب لغة قومه،الأم – لغة فرسان الجبال العالية الذين دوخوا الأرض،وهنا نحن أمام أمّ بلغتين-ما يعني الكثير الذي يجب أن نتوقّف عنده،كي تظلّ رسالة فناننا الأرمني الكردي ديكران، مستمرةً، مادامت حنجرته الذهبيّة تصدح، ومادام صوته الملائكي يترنّم في الآفاق، وألحانه الفردوسية تهدر، على مدى الدهور، شاهداً على أواصر، ووشائج، العلاقات التاريخية المتينة بين ذين الشعبين،الطيبين،العريقين، في شرقهما الجريح، رغم كل مؤامرات الأشارى، ومزاعم سدنة ببّغاوات الفِرقة- أيّاً كانوا- مادامت مزاعمهم مردودة، ساقطة.

آرام ديكران، مازال صوتك يتردّد في مسمعي، وما زلت تعيدني طفلاً حالماً،في أيام مواسم الحصاد وأصوات أطيار القطا ودورة الاخضرار البّهي، في بيادرقريتي -تل أفندي- التي التقيت فيها بصوتك،لأول مرة -كي أشحن به الروح، أواجه بهذا الصوت المدهش الأخّاذ انكسارات الّلحظة، المقيتة، مادمت مديناً لك ولآخرين، برسم ملامح الرّوح،في تكوينها الرئيس، وحبّ من حولي، والألم على أطلال جاري الأرمني الذي استجرته عواصم الآخرين، كجزء من مؤامرة عظمى،متقنة،محكمة، بل حرب كونية غير مسمّاة، ولا مجدولة،تماماً،كما أتألم وأنا أمام غرفة نأيت عنها مكرهاً، ولكم كانت العنوان الأجمل لملاعب طفولتي، وحديقة حلمي الأول، وموطن تهجئة أبجدية الحياة العظمى، والفائحة برائحة أبوي، وكتبي الأولى، ومحابري التي لا تزال مندلقةً، هناك.

 ولعلي، وأنا أعلن الحداد الرّوحي على فناننا الكبير – آرام-أناشد كل ذوي الشأن، ليسعوا للعمل الجادّ على دفنه، في مهد حبّه الأول، وأغانيه الأولى، لتحضنه تراب قامشلوكته الجميلة- فردوس الله المؤجّل على الأرض- التي طالما تبكي أبناءها الغائبين الذين توزعتهم كلّ خرائط العالم، على حدّ سواء.

-إني باسم ملايين محبي هذا الفنان العملاق، لأرجو ذلك

فلا تراب يعرف قدر فناننا إلا تراب عنوانه الأول، فهل من سيسمع من المعنيين بالأمر، وهل من معني حقاً؟

...................................

الرّحمة لروحك العذبة التي طالما سقتنا بوابل من الدفء والحلم والفرح.

الرّحمة لروح ستظل تحوّم فوق هضاب وجبال وفيافي كردستان

 -الفنان آرام ديكران من مواليد قامشلي 1943

-توقف قلب الفنان آرام ديكران في مساء يوم 6-8-2009 بعد ساعات من وصوله إلى أحد مشافي العاصمة اليونانية اثينا التي كان يقيم فيها، اثر جلطة دماغية، حيث أعلن عن موته سريرياً من قبل أطبائه.

 * قصيدة المذياع للشاعر محمود غنيم:

 

شادٍ تَرَنَّمَ لا طيرٌ و لا بشرُ
يا صاحِبَ اللحنِ أينَ العودُ و الوَتَرُ .

إنّي سَمِعتُ لِساناً قُدَّ من خَشَبٍ
فهل ترى بعدَ هذا ينطِقُ الحجرُ ؟

و آلةٌ جَعَلَت في حجرتي أُفُقاً
يرتَدُّ مُنحَسِراً عن حَدِّهِ البصرُ .

كَأنَّما الكرة الأرضية انحسرت
في جوفها و الوَرى في جوفها انحَصَروا .

قَد حكَّمتني في الأصواتِ لوحَتُها
فصِرتُ أختارُ ما آتي وَ ما أذَرُ .

لها فمٌ ليسَ يستعصي على لغةٍ
على الرَّطانةِ و الإفصاحِ مقتَدِرُ .

عوراءُ،لا تخرج الأصواتُ من فمها
إلا إذا ما بدا من عينها الشّرر .

صمّاء،لكن تعي ما لا تعي أذُنٌ
بكماء من فمها الأخبار تنتشرُ .
 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org