مقالات

بانتظار عودة راشد

 

كاظم فنجان الحمامي

راشد هو الاسم الشعبي للفلاح العراقي الأصيل المكافح, الذي كان أول من اكتشف الزراعة ونظم الري في سهول الميزوبتيميا, وكان من أعظم ملوك الحقول والبساتين والمراعي في ارض السواد, وقد ورد ذكره في برنامج (محو الأمية), في الصفحات الأولى لمقرراتها الدراسية بهذه الصيغة:-

راشد يزرع

زينب تحصد

حسن عامل فني

كان راشد ولا يزال رمزا من رموز الخصب والعطاء, لكن جيران راشد فقدوا رشدهم, وتركوا الزراعة لأسباب يطول شرحها, وهجروا حقولهم, وصاروا يتناولون الطماطة الكويتية, ويأكلون الرقي والخيار الإيراني, والبطاطة السعودية, والتمور الإماراتية المكيسة, والباميا المصرية المجمدة, فلا راشد يزرع, ولا زينب تحصد ولا هم يحزنون, وتلقينا ضربة قوية بسبب غياب أقران راشد, الذين باعوا حقولهم, واشتروا بثمنها سيارات حديثة, يتبخترون بها اليوم في الريف المتصحر, وصرفوا المتبقي من الأموال في المظاهر الخداعة, وفي تأجيج النزاعات العشائرية التافهة, فتفاقمت مشاكلنا الغذائية, وتعاقبت علينا الضربات, وربما سنتلقى المزيد منها تحت وطأة الارتفاع الصاروخي المفاجئ لأسعار الفواكه والخضر.

سجل المراقبون هذا الارتفاع ضد المنافذ الحدودية, التي أوصدت أبوابها فجأة بوجه المواد الغذائية المستوردة, بينما لاذت الجهات الرقابية بالصمت المطبق, وفضلت الوقوف على التل, فسارع ضعاف النفوس إلى استغلال هذه الوضع بتوجيه ضربات مؤلمة تحت الحزام, والتلاعب بتسعيرة محتويات سلة الغذاء العراقي اليومي, واشتركت عوامل الأمراض العراقية المستوطنة في رفع ضغط أسعار الفواكه والخضر, تمثلت بتصلب شرايين الموارد المائية, وتعرضها للإصابة بكولسترول الأطيان, وارتفاع الملوحة في صدور السواقي الحقلية, وغياب العلاج بالأسمدة الكيماوية, التي كانت توزع بأسعار مدعومة, وشحة البذور والمقويات, وصعوبة الحصول على الوقود اللازم لتحريك مضخات الحقول وآلياتها ونواعيرها, وارتفاع تكاليف استصلاح التربة إلى معدلات غير مسبوقة, وعدم كفاية الرعاية الحكومية الشاملة للقطاع الزراعي, واعتماد راشد على إمكانياته الذاتية المتواضعة جدا, وارتفاع أجور النقل بسبب خطورة الطرق الخارجية في بعض المحاور, وتفاقم هذه الأجور نتيجة لاضطرار أصحاب سيارات النقل إلى سلوك الطرق البعيدة الآمنة, ومما زاد الطين بله إن الدول المجاورة للعراق سعت منذ عام 2003 إلى إغراق الأسواق العراقية بمنتجاتها الزراعية وبأسعار منخفضة جدا, ما يضيع أي فرصة لراشد في اقتحام السوق المحلية, ويقوض جهود العراق في دعم القطاع الزراعي.

فقد تبنت دول الجوار خططا مدروسة لتفكيك نظام الأمن الغذائي العراقي وتفتيته, ومن ثم تخريب اقتصادنا الوطني, وربط مصيره بالفائض من العجلة الإنتاجية لتلك الدول, ما أدى إلى ابتعاد راشد نفسه عن قريته, فغادر حقوله مكرها, وتوجه للعيش في المدينة, وأصبحت البلدان المجاورة هي التي تتحكم بتسعيرة السوق, لذا فان قرار غلق المنافذ يعد من القرارات الوطنية المطلوبة, لكنه لم يكن موفقا في الظروف الراهنة, لأنه لم يأت في التوقيت الصحيح, ويفترض أن يكون مسبوقا بخطوات نهضوية جريئة وحاسمة, تلتفت فيها الدولة إلى الحقول والبساتين, وتعتني بأنظمتها الاروائية, وتوفر لها الدعم الكامل والرعاية الشاملة, وتعفي راشد من الضرائب والرسوم الثقيلة, وتحمي أسعار المحاصيل الحقلية من التنافس الخارجي, وتحررها من التشابك والتلازم مع السياسات الاقتصادية الأخرى.

اما الآن وبعد أن تفجرت أسعار السوق, وبدأ المواطن البسيط يستشعر مخاطر برامج دول الجوار, فإننا نطالب الجهات المعنية كافة, بضرور الاهتمام بإنتاجنا المحلي, بحيث يكون الاستيراد جزءا مكملا لنظام الأمن الغذائي في العراق, وان لا يكون منفصلا عن الإنتاج أو بديلا عنه, مع ضرورة خلق حالة من التوازن بين هذا وذاك, ومراعاة ثبات الأسعار, وعدم السماح بارتفاعها أو تذبذبها, واستنفار طاقات الدولة نحو تحسين الإنتاج الزراعي وزيادته, وتوفير المستلزمات والمواد الزراعية, وفتح الباب أمام المستثمرين في هذا القطاع, ورسم سياسات زراعية جديدة, أكثر فاعلية من السياسات السابقة, التي فشلت لحد الآن في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف المطلوبة, ولم تكن متناغمة مع متطلبات الظروف المعيشية في العراق, فالتهبت الأسعار ودخلنا في دوامة جديدة, فما أحوجنا إلى عودة العم راشد إلى حقوله وبساتينه, فقد تعاقبت علينا المواسم ونحن ننتظر, والكل يتسابق هنا منذ زمن بعيد في فضاءات الوهم كجياد بدون صهيل, فننام على جمرات اللظى بانتظار عودة راشد.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org