المرأة العراقية المغتربة .... هموم المهجر ... وأحلام الوطن

بنت الرافدين

 

 

(قد يسجن الحرّ اما حريته فتبقى مرفرفة في الفضاء المتسع امام وجه الشمس .. وقد يضرب الحر ويهان اما حريته فتظل في مأمن من الأيدي الخشنة والاصابع القذرة .. وقد يموت الحر اما حريته فتبقى سائرة مع كواكب الحياة نحو الأبدية).

جبران خليل جبران

 نعم، وقد يدفع الحر سني عمره اغتراباً وحنينا وشوقا ثمناًَ لكلمة حق قد تكون قيلت وقد تكون ذبحت قبل ولادتها.

وقد دفع الشعب العراقي ثمنا باهضا من احلامه وآماله وطموحاته وحياته وشبابه نتيجة لعبة سياسية مازالت حبكتها مسرحا للكثير من الاحداث الحبلى التي تلد كل ساعة حدثا وليداً يزيد في مأساة العراق ويعقد قضيته .. ومازال الإنسان العراقي هو الضحية ..

وقد تكون المرأة العراقية الأكثر تضررا، فهي الأم التي ثكلت، والزوجة التي ترملت والابنة التي تيتمت، كما انها المرأة التي دخلت السجون وارتقت اعواد المشانق وضاقت صنوف التعذيب، وهي التي اعالت اولادها أو اخوتها بعد فقد المعيل والسند .. وهي التي تحملت اعباء تربية الابناء في مملكة الخوف حيث يستحيل كل شيء الى همس وأنين ..

وهي ايضا التي طردت من ارضها ونفيت عن مراتع الصبا وموطن الاحبة، فحملت ذكريات الماضي ومتاعب الحاضر واحلام المستقبل لتجوب الأرض لاجئة معترف بها او غير معترف بها، تسعى لتكون مواطنة صالحة في ارض غريبة .. تنشأ جيلا صالحاً، وتخشى عليه من ازدواجية الشخصية الناتجة عن ازدواجية الثقافة والبيئة والهوية .. تكبر المرأة العراقية ويكبر معها الهم والاغتراب والحنين .. والمرأة بطبيعة تكويلنها مرهفة الحس، شفافة المشاعر فإذا بالظلم والألم يزيد ذلك فيها فيتوهج فيها العطاء لتتقد شمساً منيرة فتسحق امنية الطغاة الذين أرادوا اطفاء نورها عندما اخرجوها من ديارها بغير حق.

تنتصر ويسقط الطاغية وحزبه .. تنتصر رغم جراحها وعذاباتها لتبدأ من جديد وهذه المرة على ارض الوطن.

وفي عجالة كان لنا لقاء مع بعض السيدات العراقيات المغتربات وكان هذا الحديث:

السيدة سكينة الصراف، ام لثلاثة أولاد، اعلامية وناشطة اسلامية.

س: ما هي اسباب نفيك الى خارج الوطن؟

ج: بداية اود ان اشير الى اننا ورغم ما قرأناه أو شاهدناه من هجرات عديدة لبعض الشعوب هنا وهناك في هذا العالم الا اننا لم نشهد اطلاقا وعلى مر التاريخ هجرة كهجرة العراقين كما ونوعاًَ. فمن بين شعب لا يتجاوز عدد نفوسه العشرين مليون نسمة، اضطر اكثر من اربعة ملايين عراقي مغادرة بلده (بشكل مباشر او غير مباشر) بسبب سياسة الظلم والاضطهاد والتهديد بالموت، وكان من بين هؤلاء الملايين الاربعة، عشرات الآلاف من اصحاب الكفاءات العليا والعلماء والشعراء والأدباء.

وهنا لا اريد ان أتطرق الى الجذور التاريخية للجنسية العراقية وما خضعت له من سياسة لم تهتم في اعطاء مواصفات المواطنة الاصيلة حتى تترتب عليها قوانين ودساتير صارمة تؤدي الى توطين اناس وتهجير آخرين لأن هذه المهزلة بالتأكيد عرفها الكثيرين من المراقبين للوضع العراقي ووجدوا المفارقات الصارخة في قرار التهجير، وهذا يكفي ان يكون دليلا قاطعا أن القرار لا يخضع لأي منطق عقلي سليم وأنه بعيد تماماً عن روح القانونية بالإضافة الى أن هناك قرائن عديدة رافقت القرار على الصعيد التشريعي والاجرائي برهنت على الطابع الغير انساني لتلك الدوافع.

وبهذا كانت عائلتي واحدة من عشرات الآلاف من العوائل العراقية التي هجرت عام ثمانين بذريعة الانتماء للأصول الايرانية، رغم ان النظام (نظام صدام حسين) يعلم علم اليقين أن من هجرهم لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بإيران، لكنه قام بهذه الجريمة للتغطية على عدة جرائم اخرى ارتكبها آنذاك، كجريمة اعدام السيد محمد باقر الصدر (رض) واصداره لقانون اعدام الدعاة فضلاً عن أنه اراد اشغال ابناء الطائفة الشيعية بمثل هذه المحنة، حيث تعمد ان تتم عملية التهجير بصورة عشوائية، وتهجير بعض افراد العائلة فيما يحجز الاولاد في السجون وهكذا انشغلت غالبية العوائل الشيعية ولسنوات طويلة بما كانت تتعرض له من عملية تفريق همجية وقاسية لافرادها، بعد ان تمت مصادرة كافة اموالها المنقولة وغير المنقولة.

س: سيدة سكينة الصراف، للمهجر ثقافته كما للوطن ثقافته، يا ترى كي سيتعامل الابناء مع هذه المرحلة الانتقالية وما هي اثرها عليهم؟!

ج: بالضبط هذه هي المشكلة التي نعيشها الآن، والمشاكل الاجتماعية لا يمكن حلها في غضون ايام او اسابيع او حتى اشهر، فقد كان المطلوب من الآباء والأمهات أن يكونوا حريصين على أولادهم منذ السنين الأولى للهجرة او منذ ولادتهم في بلاد المهجر على تنشئتهم تنشئة بالشكل الذي يجعلهم غير منقطعين عن تقاليد وثقافة ولغة الآباء والاجداد، ولكن وللأسف الشديد الكل يعلم في ظل محنة الهجرة وفي ظل حالة اليأس والاحباط التي عاشها الآباء بسبب طول امد المحنة فقد دفع الأولاد ثمن الهجرة وانصهروا في المجتمع الجديد، ولكن رغم ذلك يمكن معالجة الخلل من خلال الفرصة الأخيرة المتبقية لنا.

إذن هذه الفترة الانتقالية هي فترة هامة جدا وعلى أولاء الأمر (الذين تهاونوا في بذل الجهود المطلوبة في وقت مبكر عليهم الآن) توجيه اولادهم واعدادهم وتهيئتهم للتكيف مع ثقافة المجتمع العراقي.

س: كيف تنظرين الى المهجر كتجربة زمانية ومكانية؟

ج: لعبت الهجرة دوراً ايجابياً في اعادة صياغة ثقافة شريحة واسعة من العراقيين وطريقة تفكيرهم. فقد وفّرت الاجواء الاسلامية المتاحة في ايران فرصة مناسبة لهذه الشريحة للتثقف بثقافة اهل البيت (ع) وأصبح العراقيون وبعد عقود من الاضطهاد الفكري والقيود المفروضة على الفكر الاسلامي بشكل عام وفكر اهل البيت (ع) بشكل خاص يشعرون بحرية التزود من هذا الفكر، كيف ومتى شاؤوا وذلك من خلال الكتاب ووسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية اضافة الى المساجد والحوزات العلمية، والتي استوعبت الآلالاف من الشباب والشابات وبذلك تكون الهجرة قد ساهمت في تربية وتثقيف العراقيين وتأهيلهم لتحمل مسؤولياتهم في اعادة بناء الانسان داخل العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ودون شك فإن اهمية الدور الارشادي للمهاجرين العائدين لوطنهم سيبرز بشكل كبير في المستقبل لاسيما في ظل المساعي والجهود التي تبذلها وتخطط لها الادارة الاميركية لمسخ الهوية الاسلامية للشعب العراقي. هذا على الصعيد الفكري والثقافي، اما على الصعيد السياسي فقد ساهمت محنة الهجرة والتهجير في تنضيج الوعي السياسي للعراقيين ورغم المصاعب التي اعترضت طريقهم في هذا المجال الا أنهم تمكنوا من صياغة فكر سياسي عكس مشروعية مقارعتهم للنظام من جهة ومقدار الظلم الذي تعرض له الشعب العراقي على يد الاجهزة القمعية من جهة اخرى.

وهنا عندما نتحدث عن الاثار المتعددة الوجوه التي خلفتها هجرة العراقيين لابد ان نشير الى حقيقة مهمة وهي ان الحديث عن محنة الهجرة لايمكن أن يستقيم ويكتمل دون ذكر المرأة العراقية، وربما لا نبالغ في القول عندما نصفها انها كانت بطلة المشهد المأساوي نظراً لما تحمله من دور أساسي في هذا المشهد، لقد أثبتت المرأة العراقية ومنذ الأيام الاولى للهجرة جدارة نادرة في تحمل المسؤوليات الجسام وأثبتت انها اهل للشدائد والتضحيات، ولاشك ان ما جسدتاه من مواقف رائعة طيلة سنوات الهجرة لم يكن ليتحقق لولا ايمانها الراسخ بأن قضية العراق إنما هي قضية الاسلام وأن هذه القضية ستحقق منها نمطاً فريدا من الاستعداد للعطاء والتضحية.

 وكان لقاءنا الثاني مع السيدة زهراء الحكيم ماجستير حاسبات الكترونية من جامعة القاهرة ولها نشاطات اجتماعية واسلامية في اوساط الشريحة النسائية المغتربة، اضافة الى تصديها لمنصب مديرة المدرسة العراقية (بنت الهدى) في طهران سابقا.

س: السيدة زهراء الحكيم: يا ترى لماذا نفوك الى خارج الوطن؟!

ج: إن الحجج التي اعتمدت عليها جريمة ابعادنا عن الوطن كانت حججا غير واقعية وغير انسانية وبعيدة عن كل القيم الاخلاقية، وأغلب الظن كانت ناجمة عن احقاد طائفية بغيظة لا يقبلها اي انسان غيور على وطنه وامته ومرفوضة اسلامياً ووطنياً.

س: السيدة زهراء، باعتبارك كنت تشغلين منصب مديرية المدرسة العراقية الابتدائية (بنت الهدى) كيف تقيمين دور هكذا تجمعات في المحافظة على الهوية العراقية للابناء؟!

ج: سعى الكثير من الاخوة والاخوات المهجرين والمهاجرين الى الاستفادة من عملية الابعاد القصري عن الوطن بمراجعة القيم والمفاهيم التي كانوا يحملونها وسعوا الى تصحيحها من خلال الجمعيات والمؤسسات التي انشأت في المهجر. ومدرستنا واحدة من تلك المؤسسات التعليمية التي كرست وبذلت جهودها لخدمة العراقيين في المهجر، حيث اتاحت الفرصة للجيل الجديد للمحافظة على لغتهم العربية ـ لغة الأم ـ، اضافة الى شدهم الى ثقافة الوطن الأم وعاداته وتقاليده .. وكذلك ايجاد اجواء وروابط عائلية واجتماعية بين عوائل الطلبة المنحدرة من اطياف اجتماعية ومشارب مذهبية مختلفة. وقد أثمرت هذه التجربة ولله الحمد حيث أضفت الى اجواء المهجر، فضاءات رحبة فيها الكثير من الايجابية البناءة.

س: كيف ترين المستقبل في وطنك؟!

ج: أنا متفائلة جداً فيما يرتبط بمستقبل وطني الذي يبشر بمجتمع تسوده الحرية والأمان والتسامح والمحبة بين كل الأطياف المجتمع، مجتمع خال من الممارسات القمعية الارهابية التي مارستها السلطة السابقة، مجتمع يحمل الهوية والقيم الاسلامية النبيلة التي تنكر لها النظام الدكتاتوري القمعي البائد، مجتمع قائم على أسس ومبادئ الشخص المناسب في المكان المناسب.

 ثم التقينا بالسيدة سناء الانصاري خريجة كلية الادارة والاقتصاد، ناشطة اسلامية تعمل حالياً استاذة علوم دينية في احدى الحوزات العلمية، وأم لثلاثة اولاد. وكان سؤالنا الاول عن اسباب ابعادها عن الوطن فأجابت: تركنا وطننا بعد ان ضيق علينا البعثيون الارض بما رحبت وعند هجمتهم الشرسة في اعتقال المؤمنين النشطين والعاملين لنشر دينهم حيث كان اخوتي لديهم نشاطات اسلامية وكانوا مطلوبين من قبل النظام، فبأمر من أخي ـ الذي اعتقل واستشهد ـ نفسه قال لنا لا تبقوا في العراق لأن الأمن سيعتقلونكم بدلاً عنا، فالأسلم لكم ان تغادروا، فتركنا كل شيء وبملابسنا خرجنا تاركين كل شيء نحن ثلاث بنات.

س: وكيف كانت تجربة المهجر بالنسبة لك؟

ج: يتحمل الانسان الكثير في ديار الغربة عندما يكون بعيداً عن الاهل والأحبة وهو بحاجة الى ثقة عالية بالنفس حتى يكون بامكانه تجاوز هذه المرحلة بدون التأثير على نفسيته، وحفظها من الاصابة بالأمراض النفسية، ومع هذا فهناك نقاط ايجابية في المهجر ايضاً. وعلى اللبيب الاستفادة منها وتحويل المهجر الى مكان لنمو شخصيته واغناءها بالعلم والمعرفة سواء عن طريق الدراسة الاكاديمية ان سنحت الفرصة، وان لم تتوفر الظروف لذلك فبغيرها من الوسائل الاخرى المتاحة له. والتعرف على حضارة وعادات مجتمع المهجر مع سعي لحفظ نفسه من التأثر خصوصاً بالأمور السلبية والغير مفيدة وأما الأمور الايجابية في مجتمع المهجر فلا بأس بالتعود عليها وحتى ادخالها ضمن برنامجه الحياتي.

وبالنسبة لي اعتبرها تجربة غنية ومفيدة اكثر مما لو كنت في وطني.

س: اختلاف ثقافة المهجر عن ثقافة الوطن الأم وما يستتبع ذلك من آثار على نفسية الاطفال، كيف تنظرون الى هذه القضية كأم مغتربة؟!

ج: نعم، هذه حقيقة اختلاف وطن الآباء عن ما يعبر عنه بمسقط رأس الابناء، التربية هي مسؤولية الوالدين ومن المسؤوليات الثقيلة والصعبة والتي تحتاج الى ظرافة في نفس الوقت، ومن ضمن مسؤولية الوالدين هي هذه النقطة، اشعار الابناء بالانتماء الى الوطن الأم والذي هو وطن الوالدين، وتعريفهم بعاداتهم وطريقة سلوكهم في كل مناسبة ومن نعومة اظفارهم حتى يشعرون بالانتماء رغم البعد ورغم عدم رؤيتهم لهذا الوطن.

واتكلم من وحي تجربتي الخاصة والتي اعطت ثمارها الآن، فبعد سقوط النظام العراقي ذهب ابني بشوق الى زيارة العراق وعلى الرغم من وجود التباين بين طهران ـ المدينة التي ولد فيها ويعيش فيها ـ وبين المدن العراقية التي زارها حيث ليس هناك اي وجه للمقارنة من ناحية جمال الطبيعة والخدمات وغيرها، فأراه مشتاق للعودة الى العراق.

نعم، انا سمعت عن معاناة بعض العوائل في ان ابنائهم يرفضون العودة والسبب الرئيسي في هذا الرفض باعتقادي هو الوالدين لأنهم اخلدوا الى الارض التي سكونها ولم يرضعوا ابنائهم حب الوطن وخدمته، فهم الآن يجنون ثمار تربيتهم او لنقل نقطة ضعفهم في التربية، إذ كان الابن لا يعرف لغة اهله واجداده فما ا لذي يشده اليهم؟! لأن اللغة عامل اساسي ورئيسي في ايجاد الارتباط بين الأفراد.

 وكان لقاءنا الآخر مع السيدة ايمان البهبهاني، أم لأربعة اولاد وناشطة اسلامية حيث ابتدرناها بهذا السؤال: كيف تلقيت خبر سقوط نظام صدام في العراق؟

ابتسمت السيدة ايمان وقالت: يمكنني القول ان شعوري كان مزيجاً من الفرح والحزن. صدام ونظامه كان جرثومة ممتدة جذورها بعمق 35 سنة، عمل فيها ما عمل من سلب ونهب ودمار وتشريد وغيره.

فعندما سقط، فرحت لتخلصنا منه، كان طاغية بحق وفي نفس الوقت حزنت لأن سقوطه كان اثر حرب ودخول الاميركان الى العراق فهذا يعني ان هناك في الأفق غمامة سوداء.

فعجبي هو كيف يأمل الإنسان المسلم ان اميركا تفكر بأن تصنع له عراق جديد وهادئ ومنعم.

فابتسمنا بدورنا وتساءلنا: وكيف ترين المستقبل في وطنك؟!

اجابت السيدة ايمان: انا لا أقول اني غير متفائلة ويائسة من روح الله بالعكس إن الله رب رحيم ويرث الأرض عباده الصالحين ولكن هناك امور متعلقة بالأخرى وكأنها سلسلة. فما دام هناك قوى احتلال كاميركا وتريد هذه أن تأتي بقوى اخرى مثل تركيا واليابان وغيرها فأنا لا اعتقد ان هناك بصيص امل يدل على ان الوضع في العراق سيستقر يوماًَ ما.

س: فما هي خطتكم المستقبلية، العودة ام البقاء في المهجر؟!

ج: لكل مهاجر ظروفه الخاصة وملابسات حياتية معينة لا يمكنه الانفكاك عنها، فمتى تمكن من ترتيب وضعه وبرمجة ظروفه فلن يتوانى عن العودة.

ما أريد قوله هو أن اغترابنا الذي طال 23 عاماً لم يجذّر لنا جذور في أي ارض، فجذورنا هناك في العراق ولابد ان نعود الى هناك يوماً ما.

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com