نساء تجمعهن الشمس  ويفرقهن الغروب

 

استطلاع: مؤمل الخفاجي / بنت الرافدين

 

 في أحد اللقاءات الثقافية أخبرني صديق عربي عن نيته  الكتابة عن المرأة العراقية غير أن ما أخره عن البدء في مشروعه الكتابي هو عدم حصوله على المعلومات الوافية. طلب مني هذا الصديق أن أعينه في البحث عن هذه الخاصية ولكون الأشياء التي نريدها لا يمكن لها أن تأتي سريعاً حسب ما نشاء فقد سافر الصديق العربي إلى دياره البعيدة قبل أن أبلغه بحصيلة بحثي الذي تمخض عن اكتشاف خصوصية المرأة التي تسكن منطقة الأهوار  وعادة ما تسمى او هم يسمونها (المعيدية) و هكذا يسميها الشارع العراقي وهي تفخر بهذا الإسم وتتبجح به أمام من تقرأ في نظرته الشر، لذا اعترف بأن الكتابة عنها عسيرة للغاية بل يمكن القول بأنها خطيرة جداً، لأن الوقوف أمامها والتحدث معها لغرض شراء بعض السمك أو الجبن أو اللبن قد يختلف تماماً في ردة الفعل التي ستنتج لو أراد المرء تجاذب أطراف الحديث معها في موضوع عابر، وهذا ما حدث معي في بادئ الأمر حين أردت أن التقط لهن صورة حيث ثرنّ عليَّ كطيور جارحة لانتزاع الكاميرا مني ولولا تدخل (أبو مصطفى) رجل في عقده الخامس يعمل في محل بيع الطرشي قريب من جلوسهن الدائم في السوق حيث انفرد بي قائلاً: "إن لتلك النسوة طريقة ليست سهلة في التعامل مع الغريب فهن كالماء البارد، عليك أن تنزله على جسمك رويداً رويداً"، وتعهد لي الرجل بالمجيء معي إليهن والإفصاح عن مهمتي الصحفية التي تتلخص بنقل همومهن.

كانت البداية صعبة لكنها ذابت بمرور الوقت، وقد بدأت بـ(ونسة) فتاة تبدو ناضجة فهي لا تعرف "تولّدها" لكنها تقول بأنها فطنت على أيام الهور قبل أن يتم تجفيفه من قبل صدام ولا تتمنى أن تعود إليه مرة أخرى وتتساءل مستغربة وهي توزع نظراتها بين زميلاتها الجالسات معها في السوق: "كيف استطاع أهالينا العيش سنوات طويلة وسط الماء، والخنازير المتوحشة والأفاعي السامة والبق الذي يسلب الراحة..؟".

لم تكن ملامح الأخريات تدل على قبول تساؤلها، لذا أردت أن أسمع ترجمة صوتية لهذه الملامح، فسألتهن بشكل جماعي: هل أنتن سعيدات بهذا العمل؟ أجابت من هي أكبر سناً على ما يبدو وسمعتهن ينادين عليها (أم زامل) قالت : (أفيـــش على أيام الهور) حيث كانت المرأة ملكة زمانها لا لأنها مضطرة أن تتكبل معاناة الذهاب إلى المدينة والجلوس في السوق منذ طلوع الفجر وحتى العصر لغرض تصريف ما تحتويه الأوعية من سمك أو لبن أو جبن أو قيمر بينما كان عملها يتحدد بحلب الجاموس والبقر واستخراج المشتقات من الحليب وتصنيفها إلى جبن أو قيمر، فيما تقوم أخريات من النساء بفرز الأسماك الكبيرة من الصغيرة التي يقوم الرجال باصطيادها والقيام بوزنها وقبل طلوع الفجر يأتي رجال من القرى القريبة من الهور بسيارات حمل أو بعربات تجرها الخيول لشراء ما لدينا، وحين يتعذر حضورهم يقوم رجالنا بأخذ السلع إلى السوق وبيعه بالجملة. أم زامل هذه فقدت زوجها في إحد الخلافات العشائرية لكنها استطاعت من خلال ما حصلت عليه من فدية مادية (فصل) أن تشتري جاموستين هي المصدر الوحيد لرزقها. أما (شينة) والتي لم أعرف في البداية إن كان اسمها الحقيقي (أشوان) مثلاً لكن ذلك لا يهم قياساً بمأساتها المتمثلة كونها فتاة فصلية، تقول: (أخذوني فصلية وكان عمري يومها سبع سنوات وإن اسمي الحقيقي الذي فطنت عليه هو صبيحة لكن بعد أن أخذوني فصلية غيروا اسمي إلى شينة وأصبحت أُعرف به لحد الآن.

بعد رصاصة الخلاف والعصبية العشائرية التي أطلقها والد شينة في صدر خصمه تغير اسمها إلى اسم يحمل شيئاً من التحقير و يقصد به (امرأة السوء والشؤم)، كذلك تغيرت حياتها أيضاً من الطفولة البريئة في كنف الأسرة إلى الحياة الصارمة الوقحة في كنف عائلة تبنتها قسراً لتجعل منها شاهدة على نتائج الصراعات العشائرية، وبعد أن قادها الزمن لتكون فتاة صالحة للزواج وجدت نفسها دون إرادة منها على سرير رجل في عقده السابع وتكون واحدة من اربع زوجات يتقاسمن العمل بينهن، او يقوم الزوج بالتقسيم ، تقول (شينة): "الثقل الأكبر يقع عليَّ فأنا المسؤولة عن البيع في السوق فيما تقوم الأخريات بتدبير شؤون المنزل وإطعام وسقي الحيوانات (الجواميس) وحلبها واستخراج المشتقات منها وإعدادها للبيع".

وعبر هذا كله يبرز السؤال عن دور الرجل؟ ترددت النسوة في الإجابة وكأن رجالهن يسمعون ما يقال بيد أن (تقية) الفتاة الأصغر سناً والأكثر مرحاً منهن انبرت قائلة بمقطع من قصيدة شعبية: (اسمك رجل يهواي بس عن وحشة الليل) ويبدو أن الوحشة في هذا المقطع هي الحماية والدفء الذي جعل منه السيد المهيمن على كل شيء ويتأثر بكل شيء دون التزامات محددة . الرجل اذاً  كالأسد في الطبيعة يتركز دوره فيها في إحلال الحماية فيما تقوم (اللبوة) بصيد الفرائس وتقديمها لملك الغابة. لكن هل لهذا الاستقلال الاقتصادي والحرية التي تتمتع بها هذه النسوة دور في صياغة شخصيتها؟

تقول شينة وكانت تتحدث نيابة عن زميلاتها: (ليس لنا الحق في إبداء الرأي أو إصدار القرارات أو المشاركة فيها بل نحن وبرغم هذا الجهد الذي لا يتحمله الرجل نبقى في عيون رجالنا موضع شك وعدم ثقة فيما يخص البيع والربح والخسارة، حيث يقوم الرجال بعّد صحون القيمر قبل أن نغادر بها إلى السوق أو القيام بوزن الأجبان أو السمك وتحديد أسعارها.. ويا ويل من يقلل وارد بيعها عن المقاييس المحددة) وبالمقابل نجد من يرد على (شينة) ويطعن بالرأي القائل بتسلط الرجل في هذا المجتمع فها هي الفتاة الناضجة (زكرة) التي اختارت الصمت لتنطق بقراءتها المنصفة للواقع الذكوري حيث رفضت أن يكون الرجل دافعاً عن وحشة الليل وهو الذي يسهر الليل لصيد السمك كما أوضحت وهي توجه كلامها لزميلاتها قائلة: خافن الله الرجَّال يشوّر. ثم استأنفت حديثها متسائلة: لو طلب منكن الرجال أن تجلسن في البيت هل تفرحن بذلك؟ لم تنبس واحدة منهن ببنت شفة لكني قرأت الإجابة على وجوههن التي صبغتها الشمس بلون برونزي وهي أن عزوفهن عن العمل يعني لهن الموت البطيء لأن خروجهن قبل طلوع الشمس وعودتهن إلى البيت عند الغروب هو حالة صحية لا يمكن الاستغناء عنها كونها الوسيلة التي تخلصهن من فروض البيت القاسية، ولا أعني بالقسوة شحة الوسائل الخدمية ففي بيت كل واحدة منهن جهاز (سبلت) وأكثر من (مكيف هواء) فضلاً عن جهاز (ستلايت ثلاثة أقمار) ومولد كهرباء بأمبيرية عالية... ويمكن القول بأن حياة هذا المجتمع الصغير هي حياة تختلف تماماً عن طبيعة حياة المجتمع المدني أو القروي المتمدن لكنها حياة لا يمكن كسر قوانينها الاجتماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة كعنصرين مهيمن في بناء حياة يتفق الجميع على صلاحيتها والتي لا يستطيع كما يبدو أن يشاكسها المتغير الحضاري السائد إلا في الحدود التي ترتضيها قوانينهم الخاصة.

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org