مقالات في الدستور

 

دستور أم غابة دستورية؟

حمزة الجواهري

hjawahri@hotmail.com

2005-08-16

كان من المفروض استغلال هذه الفرصة التاريخية لرفع الظلم عن الشعب العراقي ووضعه على طريق البناء وضمان حريته وحدته ورفع الظلم بكل مظاهره، وليس استغلال هذه الفرصة التاريخية لملئ إرادة قوميين متعصبين أو طائفيين أكثر تعصبا على الشعب، فلو كان الأمر كما يتصور هؤلاء السياسيون لاستطاعوا فعل ذلك قبل أن يفكر أحد بانتقادهم أو توجيه التهم لهم.

لقد قالوها بصريح العبارة وأعلنوا أنهم لا يجب أن يضيعوا هذه الفرصة التاريخية، وكنا نعتقد أنهم بهذه العبارة يريدون إسعاد الشعب العراقي، وإذا بهم يقصدون منها تحقيق أهدافهم وبرامج أحزابهم، وليذهب الشعب العراقي للجحيم.

خدعنا أنفسنا وقلنا أن الأمر مجرد مناورات تفاوضية وسوف تنتهي مع الاقتراب من الوقت المحدد لهذه المفاوضات المرثونية، وإذا بالمجلس الوطني يلقي بآخر ورقة بين يديه وهي تمديد الفترة أمام كتابة المسودة أسبوعا آخر، وقد تبين أن لجنة كتابة الدستور لم تنجز شيئا من المسودة، بل جعلت من الأمور تبدو وكأنها المستحيل بعينه، فالتضارب في المواقف والمشاريع السياسية بدا واضحا ولا يمكن أن تحتويه وثيقة واحدة، في حين ينبغي أن تكون هذه الوثيقة متجانسة متناغمة فيما بين بنودها.

بهذه النتيجة التي وصلوا إليها قد تخلوا عما أقسموا عليه وهو مصلحة العراق والعراقيين، وقد بدا واضحا أنهم يعملون فقط من أجل مصالحهم ومصالح أحزابهم وما دعواهم بالدفاع عن حقوق ومصالح الشعب العراقي إلا نفاق. لأن لو كان الشعب والوطن فعلا هو ما ينفذون إرادته لتنازلوا عن ثوابتهم أو بعضا منها من أجل الوصول إلى صيغة مشروع دستور توفيقي ديمقراطي بينهم.

بقيت مواضيع الخلاف على ما كانت عليه قبل أن يكتبوا حرفا واحدا في المسودة للدستور المنتظر، بل وأكثر من ذلك فقد تراجع الجميع عما اتفقوا عليه في قانون الدولة للمرحلة الانتقالية وما تلا ذلك من مواثيق لم يعرف محتواها أحد، فقد جرت خلف الكواليس، وها هم من صادروا إرادة الشعب باسم الدين أو القومية يعودون خلف الأبواب الموصدة لتقاسم الذبيحة من جديد، فأي ديمقراطية هذه والاتفاقات تجري بالسر؟ ألا يعلم هؤلاء السادة أن التعتيم أمره مريب وأبعد ما يكون عن الديمقراطية؟

في هذه المقالة أريد أن أتطرق لمسألة واحدة فقط، وهي مسألة فصل الدين عن الدولة التي أخذت بعدا أخر خطيرا جدا، حيث هناك اثنتي عشر فقرة تكرس الدين في إدارة الدولة أو المجتمع أو تضع رجل الدين في مرتبة أعلى من القضاء والتشريع، وقد أضيفت إليها فقرات أخرى وتعدل البعض الآخر منها لصالح هذا النوع من التكريس، مستفيدين من خلط مفهومي التدين وحمل المشروع السياسي الديني، فمن يعترض على مشروعهم الغاشم هذا، يرجم بأبشع النعوت ويوضع في صف المعاداة للدين!!! وهذا أمر غريب على الدين نفسه، لأن الدين لله، وما يهم المجتمع منه هو المعاملة فقط ( إنما الدين المعاملة) وليس التحزب والإرهاب الفكري الذي سرعان ما يتحول إلى إرهاب بكل أشكاله كنتيجة للإفلاس الفكري لدعاة المشاريع السياسية الدينية بتسويق مشاريعهم وفرضها على الدولة والمجتمع. ولنحاول أن نتحدث عن هذا النوع من التحكم لكي لا نوصم بالعداء للدين أو العداء للمراجع الدينية كما يصفنا بعض الكتاب المنافقين.

ففي المادة الثانية من مسودة الدستور نقرأ الآتي: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو المصدر الأساسي للتشريع، ولا يجوز سنّ قانون يتعارض مع ثوابته وأحكامه (ثوابته المجمع عليها) ويصون هذا الدستور الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي ويحترم جميع حقوق الديانات الأخرى. إنطلاقا من ""لا يجوز .... إلخ""، يريدون احتكار الرقابة الدستورية على التشريع لرجال الدين فقط، وذلك من خلال إلغاء المحكمة الدستورية وإبدالها بهيئة من رجال الدين لتكون رقيبا على التشريعات بحجة أن التعارض بين القوانين وأحكام الشريعة من شأن رجال الدين، لذا هذه الهيئة يجب أن تكون من رجال الدين فقط وهي البديل للمحكمة الدستورية!!!! كما وترفض أحزاب الإسلام السياسي أن يكون هناك إقرار أو ضمان دستوري على أن تكون التشريعات لا تتعارض أيضا مع مفهومي الحرية والديمقراطية، متذرعين بمغالطة لغوية ساذجة وهي أن كيف يضع المشرعين الدين في مقام الحرية الديمقراطية!!! وكأن هذه المفاهيم تنقص من قدسية الدين في حال ذكرها صراحة في وثيقة أريد لها أن تكون دستورا ديمقراطيا وليس دستورا لدولة ولاية الفقيه.

إنهم بهذه الفقرة يريدون للعراق مجلسا على غرار المجلس الذي يرأسه رفسنجاني في إيران، وهو مجلس تشخيص مصلحة النظام، ربما يقل عنه ببعض الصلاحيات، لكن بالتأكيد سوف تكتمل هذه الصلاحيات في المستقبل القريب، لمجرد إجراء تعديل بسيط على الفقرة التي يستندون إليها لكي تضمن هذا السلطة التي تطيح بكل السلطات من أي نوع كان في البلد. لا ينتهي الأمر عند هذه الفقرة، فهناك فقرة تضع المرجعية الدينية في مقام خاص من الدستور وكل التشريعات في البلد وهي المادة الخامسة عشرة التي تنص على التالي: ""للمرجعية الدينية استقلاليتها ومقامها الإرشادي كونها رمزاً وطنياً ودينياً رفيعاً"". مما لا شك فيه أن للمرجعية الدينية هذا الدور بالنسبة للدين ولكن ليس للدولة، ولو تم مزج الدين والدولة معا في هذا التعريف، فإنه بلا شك سوف يسقط مسألة الفصل بينها، والمرجعية هنا لم يجري تعريفها بوضوح، فأي مرجعية مقصودة؟ العراق فيه عشرات الأديان والطوائف؟ عموما الفقرة تضع هذه المرجعية في منزلة خاصة وهي أولا مستقلة تماما ولها مقام عالي جدا، ربما هو أعلى المقامات بالنسبة للدولة والإنسان والدين، ولها الدور الإرشادي الذي تحتكره بالكامل، والإرشاد هنا ملزم كما هو القانون، خصوصا إذا جاء من مقام عالي جدا يفوق بمنزلته من أي مقام آخر سوى الله، ومع ذلك، ربما في المستقبل يمكن أن يتم تعديل الإبهام البسيط في هذه الفقرة الدستورية لتكون معرفة بالكامل وأن تحتكر الحق الإلهي بالكامل. هل المقصود من هذه الفقرة وضع تعريف للفقيه الولي؟ كما ونسأل أيضا، كيف يمكن أن يتم التوفيق بين هذه الفقرات مع ما ورد في الأهداف الأساسية لمسودة الدستور والتي تنص إحداها على الآتي: ""تأكيد سيادة الشعب التي تقوم على أساس أنه مصدر السلطات في الدولة ومصدر شرعيتها، ولا يجوز لفرد أو لجماعة ادعاء تمثيل الشعب تحت أي مسمى"".

لمن السيادة هنا؟ هل هي للشعب أم الفقيه الولي؟ أم لرجال الدين الذين سوف يتولون الرقابة الدستورية على التشريع وبالتالي سوف تكون لهم الكلمة الأولى والأخيرة في كل شيء؟

وهناك أيضا المادة السادسة من الباب الثاني والتي مازالت أحزاب الإسلام السياسي مصرة على وجودها في المسودة، الحقوق الأساسية والحريات العامة والتي تنص على الآتي: ""تكفل الدولة الحقوق الأساسية للمرأة ومساواتها مع الرجل في الميادين كافة طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية وتساعدها على التوفيق بين واجباتها نحو الأسرة وعملها في المجتمع"". أولا نسأل كيف يمكن مساواتها مع الرجل في الميادين كافة طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية؟ فهل سوف تتساوى معه في الإرث؟ أم في الشهادة أم في التشريع أم الوصاية أم في حق الافتراق عن الزوج وغيرها من الحقوق المنقوصة، وكيف يمكن التوفيق بين هذه الفقرة الدستورية مع ما نصت عليه مسودة الدستور في المواد رقم واحد واثنين وثلاثة من نفس الباب، الباب الثاني؟ والتي تنص على المساوات بغض النظر عن الجنس في أي منها؟

لأي من هذه الفقرات الدستورية سوف تكون الغلبة في هذه الغابة الدستورية؟

الفدرالية وتفاصيلها وحق تقرير المصير مرفوضة من قبل الكثير من الأطراف، خصوصا لو كانت للكورد، ولا أدري لماذا لا يتمتع الكورد بهذا الحق في حين تمتعت به جميع شعوب الأرض؟ وهناك أيضا فقرة في المسودة تضمن هذا الحق وهي المادة / 17 من الحقوق الأساسية والتي تنص على التالي: يتمتع العراقي فضلا عن الحقوق المذكورة في هذا الدستور بجميع الحقوق المنصوص عليها في المعاهدات الدولية التي يكون العراق طرفا فيها بما لا يتعارض مع أحكام الإسلام. حيث أن أحد نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعراق طرفا به، هو حق تقرير المصير للشعوب، وهذه الفقرة لا تتعارض مع الإسلام بأي شكل من الأشكال. بغض النظر عن القناعة الشخصية لأي منا، فهو تناقض واضح وصريح في فقرات الدستور بعد أن تم حشر الدين بهذا الكم من فقراته لكي يتحول إلى دستور غير الذي يريده العراقي، فهو دستور تريده الأحزاب الدينية التي تحمل مشاريع سياسية وتحاول أن تفرض وصايتها وسيادتها على الدولة والمجتمع وتصادر حق الحديث باسم الدين وبالتالي باسم طوائفهم وأديانهم، وأكثر من ذلك مصادرة حق الوصاية على المجتمع الدولة بالكامل.

ولو كنت كرديا لتمسكت بهذا الحق بشدة، لأن النوايا واضحة وهي إقامة دولة ولاية الفقيه التي لا تخدم مصالحهم، بل ولا يستطيعون العيش بظلها، لذا على الأقل الهروب من هذا الوطن الذي يريد البعض أن يفرض عليه الوصاية بالكامل.

إن الخلاف مع الأحزاب الدينية لا يعني خلافا مع الدين، وإذا أريد له أن يكون كذلك، فهذا هو الإرهاب الفكري في أبلغ صوره وأشكاله، والذي سوف يتخذ، بلا أدنى شك، أشكالا أخرى من الإرهاب بظل وجود المليشيات المسلحة.

إنهم يريدون استغلال الفرصة التاريخية من أجل تحقيق برامجهم السياسية لأنهم حقا مدركون أن برامجهم لا رصيد لها في العقل العراق والواقع الموضوعي، ولكنهم لم يدركوا لحد هذه اللحظة أنهم فقط من سوف يخسر كل شيء، تماما كما يريد الإرهابي أن يمرر مشروعه السياسي من خلال الإرهاب ويجبر الناس عليه، الفرق بسيط جدا، وهو الموقع من العملية السياسية، حيث هؤلاء يسمون أنفسهم إيجابيين وحملة مشاريع يدعون أنها ديمقراطية، ولكن نحن نعرف تماما أن وراء الأكمة شر مستطير، فهم مازالوا يحتفظون بالسلاح، وحين يجلس أيا منهم على طاولة المفاوضات ليس بذهنه سوى تلك البندقية التي يحملها المسلحون من خلفه.

ما هو أكيد اليوم أن هذه الجماعات لا تمثل الشعب ولا تمثل الدين، بل تمثل نفسها فقط، وتريد أن تملي إرادتها على الآخرين مستغلة الفرصة التاريخية كما يعتقدون.

ربما هي أيضا فرصة الشعب التاريخية أن يصحح الخطأ الذي ارتكبه حين طرح ثقته بهم، لأن ليس غريبا أن ينتخب الشعب من لا يمثله حقا، فقد أنتخب الشعب الألماني يوما ما هتلر وأوصله للسلطة، وأنتخب الشعب الإيطالي موسوليني والكثير من الانتخابات في العالم تمخضت عن كوارث لتلك الشعوب، لكن الشعب العراقي مازال أمامه الكثير الذي يجب أن يفعله، فقد بقي لنا الحق باستفتاء على الدستور ونستطيع رفضه فيما لو وجدناه لا يحقق رغباتنا، وأمامنا انتخابات جديدة لاختيار من يمثلنا حقا ويلبي مطالبنا.

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com