مقالات في الدستور

 

أي دستور؟! ولأي عراق؟!

عزيز الحاج

وأخيرا تمخضت الجهود ليل نهار عن مشروع لدولة دينية في العراق!

 لا توهمنا وتضللنا المواد والفقرات المطولة عن الحقوق والحريات ومادة تقول "الشعب مصدر السلطات وشرعيتها"، فالعنصر الحاسم في المسودة المحترمة وعمادها الحقيقي هو ما يرد في بداية باب "المبادئ" والذي ينص على أن الإسلام "مصدر أساسي للتشريع ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته وأحكامه." الدستور المؤقت كان ينص على أن الإسلام "مصدر للتشريع"، أي واحد من المصادر وليس كما اليوم مصدرا أساسيا ومن دون إشارة ما لمصادر أساسية أخرى، مما يعني إما أنه المصدر الوحيد أو أن بقية المصادر إن وجدت ليست إلا ثانوية وتخضع للأساسي. وكانت المادة السابعة في الدستور المؤقت المشار لها تنص في نفس المادة على عدم سن قانون يتعارض "مع ثوابت الإسلام [ المجمع عليها] ولا مع مبادئ الديمقراطية والحقوق الواردة في الباب الثاني." المادة الجديدة تحذف عبارة "المجمع عليها"، وتنقل عبارات عدم سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية للمادة التالية مما يضعفها لحساب المادة التي سبقتها عن "مصدر أساسي." أما لماذا حذف عبارة "المجمع عليها" فتفسيره في النص على "الأكثرية الشيعية" وعلى دور " المرجعية الدينية .. ودورها الروحي، وهي رمز ديني رفيع على الصعيدين الوطني والإسلامي " وأنه يجب عدم تدخل الدولة بتاتا في شؤونها. واضح جدا أن المقصود هي مرجعية "الأكثرية الشيعية"، وبالتالي فإن ثوابت الإسلام المقصودة هي ثوابت الإسلام الشيعي والفقه الشيعي، الذي يفرض الحجاب ويحرم الموسيقى والغناء ولعب الشطرنج، وحتى رنين التلفون النقال!، إلى آخر قائمة الممنوعات والمحرمات عند جميع مدارس الإسلام السياسي والتزمت الإسلامي بالمذهبين.

 إن الوثيقة الجديدة كما نشرتها أمس الاثنين صحيفة الصباح الجديد تتخلى عن وصف الدولة بالإسلامية و"تتفضل" بذكر الديمقراطية الملغاة في المسودة السابقة. هذا طبعا تقدم كبير. ولكنه تقدم "مخوزق" إن صح التعبير، مادام النظام المطلوب هو القائم على أساسية الدين الإسلامي في التشريع. وهذا أيضا ينطبق على حق المساواة بين الجنسين بشرط عدم مخالفتها للدستور، أي للدستور الإسلامي! وكذلك فإن الاعتراف بالاتفاقيات الدولية مشروط بعدم مخالفة هذا الدستور الديني المذهبي!

 اجل لا يجب أن تخدعنا العبارات والبنود الطنانة عن الحقوق والحريات الشخصية والعامة و"الشعب مصدر السلطة" مادام كل شيء سيكون خاضعا لاجتهادات الفقه الديني. وهل ننسى فتوى المرجعية الشيعية ضد قانون الجنسية الجديد؟ وهل نتوقع غير إخضاع الاحوال المدنية لحكم الشريعة؟ كلا بالطبع.

 زلماي خليل زاد يرقص فرحا لان هذه الولادة المشوهة ولدت تحت رعايته، وبوش وكوندوليزا رايس مبتهجان ومتفائلان بمستقبل العراق! ولكن الخاسر الأعظم والأول هو الأفق الديمقراطي اللبرالي للعراق، وهي المرأة العراقية، وهم أصحاب الديانات الأخرى. والخاسر الثاني واشنطن نفسها وإدارة بوش حيث ان هذه النتيجة لحرب التحرير التاريخية ستضع علامات الشك والاستفهام على مجمل السياسة الأمريكية في العراق وعلى مشروع الديمقراطية للشرق الاوسط. فهل تحرر العراق من الاستبداد القومي الطائفي العنصري الدموي لينتقل إلى استبداد ديني مذهبي؟ أما المنتصرون في المنطقة فعلى رأسهم نظام ولاية الفقيه.

 ونسأل أيضا على ماذا حصل الشعب الكردي ممثلا في الجبهة الكردستانية من مكاسب جديدة؟ الدستور المؤقت كان قد اعترف بفيدرالية كوردستان وحكومتها ومؤسساتها. هل هو البند الخاص بجعل الكردية لغة رسمية في العراق بجنب اللغة العربية؟ ولكن هذا مكسب مظهري رغم أهميته الرمزية. فكيف سيستقبل أهالي الأهوار والعمارة والنجف وغرب العراق هذا الإجراء؟ هل سيكونون قادرين على استعمال الكردية ناهيكم عن فهمها؟ وخلال كم مدة من الزمن؟ وهل سيجدون أنفسهم مجبرين على ذلك؟ بل حتى الكورد الفيلية الموجودون في بغداد والوسط لا يفهمون، إلا أقلية منهم، لهجتي أكراد كردستان العراق! كيف أمكن للقيادات الكردية في الحكم ولجنة الدستور أن توافق على دستور ديني للعراق بينما كان الشعار الكردي دوما هو الحكم الذاتي ثم الفيدرالية لكردستان والديمقراطية للعراق؟ طبعا النظام الإسلامي لن يطبق في كردستان، وإن يد الحكم المركزي في المرحلة الراهنة أقصر من أن تمتد للحقوق الكردية المكتسبة منذ عقد من السنين. ولكن أية ضمانات لمستقبل أبعد؟

 إذا كان بوش وخليل زاد ورايس فرحين بهذه النتيجة فإن الصحف الغربية لم تنخدع بالعبارات الطنانة والماكرة والمرواغة الواردة في مسودة الدستور. فصحيفة الديلي تلغراف نشرت أمس 22 منه مقالها عن العراق تحت عنوان :" الولايات المتحدة ترضخ لطلب الدور الإسلامي في القوانين العراقية." أما الغارديان فقد نشرت بالتاريخ نفسه تعليقها تحت عنوان إن الولايات المتحدة "تلين" تجاه القانون الإسلامي للتوصل إلى صفقة عراقية." وتقول الصحيفة إن زلماي خليل زاد قد اقترح صيغة "الإسلام" هو مصدر أساسي للتشريع مؤيدا هذه الصيغة التي "سوف تعطي رجال الدين كل السلطة في الأحوال المدنية كالطلاق والزواج والميراث." كما تنقل الصحيفة حديثا منقولا عن شخصية كوردية في اللجنة لمراسل رويتر حيث يقول:" نعرف أن الأمريكان وقفوا مع الشيعة. إنها لصدمة . هذا لا يتطابق مع القيم الأمريكية. لقد أرخصوا الدم الكثير وأموالا طائلة لينتهوا بدعم قيام دولة إسلامية."

 كما قلت في آخر مقالة لي فإن المجلس الأعلى قد نجح في مناورته عندما طرح فكرة الفيدرالية الشيعية من تسع محافظات. لقد أثار ذلك ممثلي السنة، مثلما صدم الشرائح العلمانية من الشيعة أنفسهم وسائر العلمانيين واللبراليين العراقيين. كانت المناورة تتمثل في إثارة الموضوع ليكون أساسا للمساومة مع الطرف الكردي لتمرير مشروع الدولة الدينية المذهبية. ومن جهة أخرى أثيرت الأطراف "السنية" فطلبت تأجيل موضوع الفيدرالية واعتبرت ذلك قضية مصيرية. فأصبح الأمر وكان الفيدرالية كمبدأ موضع الطعن مع أن قادة الحزب الإسلامي العراقي قد أعلنوا قريبا عن "تفهمهم" لفيدرالية كردستان، فما استفزهم هو مشروع الدولة الشيعية من تسع محافظات وفيها معظم الثروة النفطية وما يتوقع لها من شبه تبعية لإيران، وعلما بأن هذه الأطراف السنية تؤيد قيام حكم إسلامي، ولكن على مذاهبهم هم! أنسينا كيف اختلف الجمعان حتى على صيغة القسم الديني؟! ما شاء الله!.

لا شك أن المسودة سوف تستفز معظم سنة العراق وقد تغذي ميول التطرف ودعم الإرهاب الصدامي ـ الزرقاوي بين أوساط متسعة جديدة منهم، أي خلق أعداء جددا لمجرد مطامع الأحزاب الشيعية في احتكار السلطة والنفوذ والثروة.

 طبعا إن النصوص مهمة جدا، ولكن هناك التطبيق. فإذا كان الاتجاه هو نحو النظام الديني فإن الأحزاب والتنظيمات الشيعية وفرق الإرهابيين السلفيين من السنة المتطرفين لا ينتظرون الدساتير والقوانين! لقد شرعوا فعلا بتطبيق النظام الإسلامي تدريجيا حال سقوط صدام. بدأت الممارسة في بغداد بمدينة الثورة على أيدي عصابات مقتدى الصدر وانتقلت للبصرة وكل الجنوب حيث أصبحت الأحزاب والتنظيمات الشيعية ومليشياتها تنشر الرعب وتفرض قوانينها الرجعية الخاصة على المواطنات والمواطنين. وفي الوقت الذي كان فيه أعضاء اللجنة الدستورية يجتمعون في المنطقة الخضراء كانت موجة الرعب الديني تتواصل وتتسع خارج كردستان. ومن الصدف أن تنشر "واشنطن بوست" تقريرا مطولا ومرعبا للغاية يوم 21 الحالي عن انتهاكات وجرائم الميليشيات المسلحة، والتي صارت قطاعات منها مندمجة بالجيش والشرطة ولكنها تخضع لأوامر أحزابها الأصلية ولا تعتبر نفسها جزءا من الدولة العراقية. إن التقرير يثير اتهامات حتى للمليشيات الكردية رغم أن أحزابها لا ترتبط بمشاريع الإسلام السياسي كما هو الحال مع مليشيا بدر وجيش المهدي والمسلحين من حزب الفضيلة في البصرة. ويروي التقرير كيف تقوم المليشيات في الجنوب بعمليات خطف وقتل بالعشرات، وكيف أصبحت قوات الشرطة نفسها خاضعة للتنظيمات الشيعية، وكيف يعتدون على جميع المخالفين لمشاريعهم الظلامية، وينهبون، ويعتدون على المؤسسات الحكومية، ويجبرون النساء على الحجاب ويمنعون الموسيقى والغناء، الخ. مما ورد ذكره في المئات من المقالات والتقارير المنشورة سابقا. وعندما اعترف رئيس شرطة البصرة لمراسل الغارديان بخضوع 90 بالمائة من الشرطة للتنظيمات الإسلامية جاءه تنبيه من وزير الداخلية يحذره من أي تصريح. ونذكر أن كشف بعض هذه الفظائع كانت سبب خطف واغتيال الصحفي الأمريكي اللامع وصديق العراقيين دينيس فنسن قبل أسبوعين. أما تطبيق الشريعة في مناطق "سنية" من العراق، فنعرف ما كان يجري في دويلة الطالبان السلفية في الفلوجة، وهو بالضبط ما يجري حاليا في مدينة حديثة . وتنقل لنا الغارديان وقائع رهيبة عن احتلال الإرهابيين السلفيين لهذه المدينة وفرض قوانينهم وممارساتهم، من منع الغناء والموسيقى، والمحاكمات الفورية في الشارع، وقطع رؤوس المتهمين، ووضعها على جثثها متروكة على الجسر. ويتم تصوير ذلك كله في الفيديو وتوزع الكاسيتات مجانا في السوق. ويقول التقرير إن أطفال حديثة صاروا يتسلون بهذه المناظر أكثر من أفلام الكرتون!! أما القوات الأمريكية فتنزل المدينة من وقت لآخر ليومين أو ثلاثة، ويكون الإرهابيون قد انسحبوا كدرس تعلموه مما حدث لهم في الفلوجة، وما أن ينسحب الأمريكان حتى يعود الإرهابيون للمدينة وحيث يسيطرون على كل شيء.

 اليوم سوف يعطي الدستور، لو ووفق عليه، كل الشرعية لأمثال هذه الجرائم والانتهاكات وكل ذلك باسم ثوابت الإسلام وأحكامه.

ألا بئس المسودة !ونعيا للمشروع الديمقراطي في العراق لو جرى إقرار الوثيقة!

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com