مقالات في الدستور

 

الدستور، والخيار بين (كل شيء أو لاشيء)

د. عبدالخالق حسين

Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

رغم الصعوبات والعراقيل التي يمر بها العراق الجديد فإن الأمل مازال قوياً بالمستقبل وأنه سينهض، من هذا الركام والأنقاض كما نهضت اليابان وألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. وما يعانيه العراق الآن من آلام المخاض العسير يتناسب طردياً مع المظالم التي عانى منها خلال أربعين عاماً من حكم التيار القومي الشمولي والذي بلغ الذروة خلال حكم البعث الصدامي الفاشي البغيض. فقد تكالبت عليه حكومات ومؤسسات في العالم لأسباب مختلفة، منها لأنها تخاف وصول الديمقراطية إلى بلدانها ومنها بغضاً لأمريكا ورئيسها جورج بوش.

لذلك يجب أن لا يتوقع المثقفون الديمقراطيون الليبراليون أن شعب العراق سيفهم الديمقراطية ويمارسها بين عشية وضحاها كما تمارسها شعوب الدول الديمقراطية العريقة التي بدأتها قبل أكثر من خمسة قرون. كما ويجب أن لا نتصور أن دستوراً تشترك في صياغته كل أطياف الشعب العراقي بمنتهى الحرية لأول مرة في التاريخ، سيكون دستوراً مثالياً وعلمانياً ديمقراطياً مائة بالمائة. إن الديمقراطية لا تعني أن تحصل على جميع ما تريد، بل يحصل كل طرف على بعض ما يريد. فالديمقراطية هي آلية تستخدم لحل الصراعات بين الفئات المتنازعة على المصالح، بالوسائل السلمية الحضارية وتحقيق الموازنة بين الفئات المتصارعة حسب مبدأ التوافق والمساومات compromise .

لذلك أتفق تماماً مع الأستاذ حسين كركوش في مقالته القيمة (الديمقراطية والإسلام توأمان في الدستور العراقي ) في إيلاف، 30/8/2005، وتحليله الموضوعي للصيغة النهائية لمسودة الدستور وخاصة تركيزه على ما جاء في المادة الثانية من باب "المبادئ الأساسية":

أولا/الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع:
أ - لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام
ب - لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.

 فعندما انتقدنا المسودة السابقة، وأبدينا تحفظاتنا على بعض بنودها، كنا ندرك مدى الصعوبات التي يواجهها أعضاء لجنة صياغة الدستور، خاصة والعراق يمر في أعنف التحولات التاريخية عربدة. وكنا قد طالبنا بتأجيل كتابة الدستور لأنه يعتبر العقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين، ليس لهذا الجيل العاثر الحظ فحسب، بل وللأجيال القادمة، ولأننا كنا ندرك أن كتابة هكذا وثيقة مهمة في حياة الشعب في هذه الظروف المعقدة والشائكة، ستثير المزيد من الخلافات والمشاكل والتأليب وسفك دماء. ولكن طالما خرجت المسودة أخيراً إلى حيِّز الوجود بشكلها النهائي، حيث فيها حصة لكل طرف من مكونات الشعب، وشعوراً منا بالمسؤولية إزاء الوطن في هذه الفترة العصيبة، نرى من الحكمة عدم الإصرار على معارضته، بل نرى من واجب الجميع ترك خلافاتهم الثانوية جانباً والعمل على إنجاح هذا المشروع. فكما جاء في تصريح الناطق باسم الحزب الشيوعي العراقي: "اننا اذ ننظر الى مسودة الدستور في اطارها العام بايجابية، نؤكد في الوقت عينه تحفظنا على العديد من بنودها، خصوصاً تلك التي تخلّ، في بعض فقراتها وصياغتها، بالطابع المدني- الديمقراطي المنشود للدستور، ..". وهذا لا يعني أن المسودة النهاية خالية من العيوب، ولكن وكما قال الأستاذ حسين كركوش (لننظر إلى النصف المملوء من الكأس). إن البند القائل: (لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية) وبنود جيدة أخرى، يمكن أن يكون سلاحاً بأيدي الديمقراطيين في منع صدور أي قانون ينتقص من حقوق المرأة والحقوق الديمقراطية الأخرى. هناك علمانيون متفائلون أكثر من اللازم، طالبوا حتى بعدم ذكر الإسلام نهائياً في الدستور. إن هكذا طلب يستحيل تحقيقه في هذا الوقت الذي هيمن الدين بشكل كامل على مشاعر الشعب وعلى الشراع العراقي. إذ تقول الحكمة: (إذا أردت أن لا تطاع فأطلب بما لا يستطاع). يجب أن نكون واقعيين وأن لا نبتعد كثيراً عن مشاعر الناس ونطلب منهم أكثر مما يتحملون، وإلا وقعنا في الطوبائية.

يجب على عقلائنا من السياسيين والمثقفين أن يعملوا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولا يلحوا على إغراق السفينة العراقية وهي تشق عباب بحر صاخب هائج. فالبنود التي لا ترضينا يمكن النضال من أجل تعديلها في المستقبل. والمستقبل هو لصالح الديمقراطيين. فهذا الدستور ليس آيات منزلة من السماء، بل هو قانون وضعي من صنع البشر ويمكن أن يغيره البشر. فالدستور الملكي العراقي تم تعديله خمس مرات وكذلك دساتير الدول الأخرى. وحتى دستور الأمم المتحدة على وشك التعديل.

أما الخوف من الفيدرالية في المناطق العربية، فإننا مازلنا مع الفيدرالية الكردستانية ولا مركزية المحافظات. ولا أعتقد أن الفيدرالية الطائفية سترى النور. والثروة الوطنية يجب أن تكون تحت تصرف السلطة المركزية. والمسودة واضحة بهذا الخصوص. وإذا كنا نؤمن بالديمقراطية فيجب أن نقبل بنتائجها.

كما أسلفنا، في الأنظمة الديمقراطية من النادر أن يحصل أي طرف من الأطراف على كل ما يريد، بل على بعض ما يريد. إن الإصرار على (كل شيء أو لا شيء) ينتهي دائماً بلا شيء. وتاريخ العراق مليء بالدروس والخيبات والعبر من هذا النوع. لذلك فعلى قادة السنة العرب أن يستفيدوا من تجربة أخوتهم الشيعة بعد تحرير العراق من الحكم العثماني على أيدي القوات البريطانية في أوائل القرن العشرين. في تلك المرحلة المتخلفة من التاريخ كان الشعب العراقي يعيش تحت عبء ثقيل من التخلف، تراكم عليه عبر قرون منذ سقوط الدولة العباسية على أيدي المغول عام 1258. ولم يكن الشعب مؤهلاً بالمرة لحكم نفسه في تلك الفترة، إذ كانت الأمية الأبجدية تشمل حوالي 99% من السكان، وانسحاب الجيش البريطاني من العراق آنذاك كان معناه عودة الحكم التركي. لذلك أعتقد أن الاحتلال البريطاني للعراق كان بحق (إعماراً وليس استعماراً). ولكننا ما زلنا نصر، ونتيجة لثقافتنا اليسارية المعادية للغرب التي رضعناها مع الحليب منذ الولادة، نعتبر هذا الكلام مرادف للكفر والإلحاد. فما زلنا نعتقد أن حرب الجهاد ضد الإنكليز كانت صحيحة بينما في الحقيقة كانت مدمرة للذين قاموا بها، وبقية القصة وعواقبها الكارثية على الشيعة معروفة. كان رجل الدين الوحيد الذي خرج على رأي الغوغاء هو المرجع الشيعي السيد كاظم اليزدي الذي نصح بعدم المواجهة مع الجيش البريطاني، فاتهموه بالعمالة للإنكليز. وبعد ثمانين عاماً من التهميش والعزل السياسي والمقابر الجماعية، أدرك الشيعة هذه الغلطة، لذا، فلما تم تحرير العراق من الفاشية البعثية نصحهم المرجع الديني آية الله السيستاني بعدم محاربة قوات الحلفاء. وكان موقفاً حكيما من السيد السيستاني سيخلده التاريخ.

لذا فالحكمة تقتضي من السنة العرب أن يستفيدوا من هذا الدرس من أخوانهم الشيعة ولا يرتكبوا ذات الغلطة القاتلة وهم في بداية القرن الواحد والعشرين، عصر العولمة والديمقراطية والمساواة. عليهم أن يشاركوا في العملية السياسية بكل ثقلهم وبالوسائل الديمقراطية المتاحة. عليهم أن يصغوا إلى النصائح الحكيمة التي قدمها لهم المثقفون العرب وكلهم من السنة، من أمثال الأساتذة: شاكر النابلسي وعبدالرحمن الراشد وأحمد الربعي وأحمد الجارالله وأحمد البغدادي وهاشم صالح وعبدالحميد الأنصاري وغيرهم كثيرون من الكتاب العرب المتنورين. فالإصرار على الخطأ واللجوء إلى العنف وإبراز العضلات سيفضي إلى المزيد من الخسائر والهزائم، وفي النهاية سوف يندمون لأنه لا يصح إلا الصحيح. ليس هناك عراقي واحد يريد تهميش السنة العرب، إنهم هم الذين اختاروا تهميش أنفسهم ورفضوا أن يأخذوا دوراً إيجابياً في العملية السياسية والمشاركة في الانتخابات يوم 30 كانون الثاني الماضي، لأنهم رفضوا التخلي عن امتيازاتهم التي أغدقها عليهم صدام حسين والعيش مع بقية مكونات الشعب العراقي بالتساوي. إن عهد التمييز العرقي والطائفي قد ولى وإلى الأبد والتاريخ لا يعيد نفسه ولا يرجع إلى الوراء مطلقاً. وعلى السنة العرب أن لا يربطوا مصيرهم بحزب البعث الفاشي، عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن البعث وجرائمه. وهذا موضوع مقالنا القادم.

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com