مقالات في المجتمع المدني

 

 

التنمية الثقافية أهم شروط بناء المجتمع المدني في كردستان العراق

 

جاسم المطير

j.almutair@wanadoo.nl

الحوار المتمدن - العدد: 1144 - 2005 / 3 / 22

مثل النجوم في السماء الصافية والملبدة ، تظهر في هذه الأيام ، ومنذ عقدين من الزمن في سماء بلدان العالم الثالث كلمات براقة عن " المجتمع المدني " مما يدعو الكثير من مواطني هذا العالم إلى البحث عن معنى وأصول المصطلح الذي صار متداولا في كل مكان بالارتباط مع مفاهيم وعناوين " الديمقراطية " .

المفكرون والسياسيون وأصحاب النظريات اختلفوا وهم يواصلون اكتشاف تعريف محدد للمجتمع المدني وتحديد دليله في قيادة خطاه بما يحقق أهداف منظماته المتعددة المناهج والأغراض .

أول شيء نجده بهذا الصدد هو أن العاملين في منظمات المجتمع المدني يتحدثون بإسهاب عن العلاقة الوطيدة بين المجتمع المدني والديمقراطية بالإشارة الأولى لارتباط نشاط منظماتهما بعدد وفير من القضايا والمفاهيم السياسية والفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية من جهة وبالآليات المعتمدة لتحقيق هذا الارتباط من جهة ثانية ولتشكيل الصورة الديمقراطية المستهدفة من بناء المجتمع المدني من جهة ثالثة .

في التجارب العالمية والإنسانية منذ الحضارات القديمة وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين كثير من الشواهد والمعطيات عن تلك المحاولات والتجارب ابتداء من المفاهيم الأولية في

" جمهورية أفلاطون " مروراً بـ" فلسفة الحق " عند هيجل وكًرامشي وكارل ماركس وغيرهم.

في غمار تلك الأفكار والأنظمة السياسية بما فيها الأنظمة الشمولية التي اتخم الكثير منها بالبريق الكئيب عن العدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية والحرية الفردية وغيرها. بعض التجارب الإنسانية حقق حشودا من الأفكار الإنسانية وبعضها حقق خطوات محدودة وبعضها عاش في حالة من الإظلام . الشيء التاريخي الواضح أن الأرض - في العالم الثالث على وجه التحديد - ظلت ترتعش دائما تحت أقدام المحكومين خاصة المحكومين من الناس الفقراء حيث تحيطهم فرقعة نيران الفقر والظلم .

لا شك أن جميع تلك التجارب والفلسفات الإنسانية عن مفهوم بناء " المجتمع المدني " واجهت المصاعب أو المخاض لأنها أرادت أن تتألق من خلال السلطة والدولة أو أن الدولة والسلطة أرادتا التألق من السعي وراء نداء يختفي وراءه أصحاب الدولة والسلطة مما أوجد الصلة المباشرة بين الروح والحديد ، بين " روح " الجماهير وتطلعاتها الإنسانية وبين " حديد " السلطة الدكتاتورية والدولة الشمولية.

من هنا نواجه أسئلة كبيرة :

ما العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني ،

ما العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والديمقراطية ،

ما هو دور سلطة الدولة في بناء أسس وممارسات المواطنين في المجتمع المدني ..؟

من خلال هذه الأسئلة وفروعها التفصيلية وتجاربها نشأت تعريفات عديدة للمجتمع المدني ، لكن أغلبها يتقارب تدريجيا في ثلاثة تعريفات :

1 - " المجتمع المدني هو المجتمع الديمقراطي القائم على المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتنوعة الأهداف والمستقلة في عملها عن الحكومة " أي أنها ( منظمات غير حكومية ) .

2 - ويُعرِّف آخرون المجتمع المدنيّ بأنه المجتمع الّذي يتلاشى فيه " دور السّلطة " إلى المستوى الّذي يتقدّم فيه دور المجتمع على دور الدولة ، بل ويذهب فريق آخر إلى اعتبار السّلطة وجوداً معارضاً ومواجهاً لوجود الدولة ; لذا يجب تقليص دورها ليسود دور المجتمع .

3 - «وعُرِّف المجتمع المدني أيضاً بأنه : «مجموعة التنظيمات التطوّعيّة الحرّة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السّليمة للتعددية .»

فهل يمكن الحديث ، استنادا إلى التعريفات المتقدم ذكرها ، عن مجتمع مدني في المنطقة الكردية في العراق وهي المنطقة الأشد تخلفا وعذابا ومعاناة ..؟

 ماذا يجب أن يكون حاضرا في روح كردستان العراق في الفترة الحالية التي يجتازها العراق كله بصعوبة بالغة وبإرادة أبلغ مصحوبة بتضحيات جديدة ُ خاصة بعد أن أقر الدستور العراقي المؤقت حق إنشاء الفيدرالية الكردية ضمن الوحدة العراقية ..؟

كيف يمكن ولوج مستقبل متغير متميز بحالة السلم الاجتماعي بعد الخلاص من حالة طويلة سادت فيها حمى الاضطهاد الشامل وحرائق الحروب وصواعق الأسلحة المدمرة التي لم تخلف غير الشر و الأحزان ..؟.

الجواب على السؤالين هنا يتطلب أولا وقبل كل شيء أن نفهم عدة أمور أخرى ، علينا أن نتعرف على الآلة اللازمة لقيادة الحياة الاجتماعية نحو الأفضل ، علينا أن نعرف أي الأشياء نحتاجها من تلك التي تتناسب مع قدرات الواقع الاجتماعي والتجربة السياسية العراقية بصفة عامة والكردية بصفة خاصة ، علينا أن نكتشف أسس الآراء المحركة للناس والمحركة لآليات روح المجتمع والسكان ، علينا إيجاد الحدود الفاصلة بين الجزء المظلم الموروث من النظام السابق والجزء المضيء في إرادة شعبنا العراقي كله لتجديد حياته .

فإلى جانب الجزء المظلم الذي يؤدي تكرار الحديث عنه إلى تثبيط الهمة ، فإننا نرى أن معرفة قوى الروح الشعبية تكفي لتخليصنا من حالة القلق ، والشفاء من حالات الشك والتهاون والكسل والبطالة الفكرية .

إننا يجب أن ننظر إلى صعوبات الحياة الحالية باعتبارها الشر الأقل بعد أن زال الشر الأكبر في ربيع 2003 فإننا نجد نقيض تلك الحالة السلبية الموروثة عن النظام الدكتاتوري البائد ، متمثلا في تبلور إرادة الخير الحقيقي متجسدة بصورة جلية في حب الشعب الكردي لأرضه ولأرض العراق كلها انطلاقا من أن الإنسان العراقي على مراحل التاريخ كله وفي حالتي السلم والحرب هو جزءٌ من كل ٍ ، وقد اثبت الشعب الكردي جدارته بالمعاني الوطنية الكبرى وبامتيازات روح المشاركة التي تمثل بطريقة ما روح الأمة العراقية الواحدة ، باعتباره شعبا أصيلا وقف من الناحية العملية خارج ذاته من اجل حرية وسعادة الشعب العراقي كله ومن اجل أن تكون المدينة الكردية مدينة الحرية العراقية المنفتحة أمام المناضلين العراقيين جميعا بنوع من الأخلاقية المدنية..

خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية احتضنت المدن الكردية مناضلين عراقيين أحرارا من كل القوميات والأجناس ومن منتسبي الأحزاب السياسية المختلفة حين صارت كردستان ارجوانا لامعا وحيدا كمدينة عراقية واحدة ، وحيدة الإشعاع في ظلام الدكتاتورية المقيتة طيلة زمن طويل من العذاب .

هل أقع بمبالغة حين أقول أن المدينة الكردية غدت ملمحا أساسيا في طموح الشعب العراقي كله في الوقت الراهن وداخل الزمان العراقي الذي نعيشه متطلعين لنشر ثقافات وممارسات يومية وإستراتيجية قائمة على بنية مؤسسات ومنظمات يطلق عليها اصطلاحا منظمات و مؤسسات المجتمع المدني أي الأحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية والاتحادات العمالية والطلابية والمهنية وجماعات المتطوعين في سياق منظمات وتنظيمات غير حكومية للإسراع في تأسيس المجتمع المدني العراقي بما فيه المجتمع المدني الكردي ..؟

هذا سؤال نحتاج جميعا إلى المشاركة في الجواب عليه .

في مقالتي هذه ألتقي مع قراء كثار على أرض كردية تضم شعبا تعدديا كبيرا وهو في مرحلة الخلاص من قيوده يعطي نفسه بهدوء ، قوانين يعتقد بأنها الأكثر جدارة لصنع مستقبل سعادته ، لتحويل ما تضمه هذه الأرض من الخيرات المادية الضرورية تحويلا أساسيا من اجل إسعاد شعبها وبجانبها خيرات أخرى ضرورية للحياة الروحية بمجموعة كبيرة من الموروثات الثقافية .

ففي الموروث الثقافي الكردي نجد ما يلي :

(1) جماعة حقيقية متواصلة الأجيال تملك أرضا ولغة وتاريخا نضاليا طويلا ، وقد انتظمت نخبها السياسية والثقافية في أحزاب ومنظمات منذ عقود طويلة ،

(2) كما نجد روحا جماعية متطلعة إلى العدالة الحقيقية مجربة بالنضال الجريء والإرادة القوية ،

وكذا القول أن الشعب الكردي كغيره من الشعوب الحرة يريد ضمان مصالحه الحقيقية لتستجيب للعيش الحر الكريم لجميع أبنائه مثلما يريد أن يكون النظام المركزي في بغداد أمينا في استجابته لضرورات السلطة الديمقراطية لتحقيق نعمتها في العيش والتطور في أجواء المجتمع المدني العراقي المعني بأمور الحرية والديمقراطية والتعددية الفكرية والحزبية والسياسية واحترام حقوق الإنسان كاملة وليست منقوصة ً أو ادعاء ً مجردا ، واستحداث نماذج جديدة قائمة على العلم والتكنولوجيا في ميادين التنمية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية والصحية والرقي الثقافي لعموم المواطنين .

أول شيء يتطلبه هذا الهدف هو تحويل المدينة الكردية الحرة إلى مدينة قائمة على بنيان المبادئ المدنية العصرية وعلى تحالف المواطنين في كردستان العراق وفق اتجاهات تقوية مشاركة كل مواطن في تطوير المجتمع المدني وأسسه ومبادئه من خلال الانضواء تحت النبرة الحضارية الواضحة لمنظمات المجتمع المدني المتعددة الأغراض والمتنوعة الأهداف في أعمالها وفعالياتها من اجل خلق مناخ سياسي وتشريعي واقتصادي يدعم حرية الشعب الكردي ويحقق استقلال منظمات ومؤسسات وجمعيات المجتمع المدني عن الدولة والحكومة .

لا بد من التأكيد هنا أن شجاعة وفاعلية ورؤية منظمة المجتمع المدني لا يمكن أن تتحقق إذا صارت تابعة من توابع أجهزة الدولة كما في الأنظمة الشمولية كما أجد نفسي مضطرا للتأكيد أيضا على ضرورة القول أن منظمة المجتمع المدني ليست منظمة إصلاحية وقتية أو أنها أداة استصلاح محدودة لمشكلة من المشاكل أو قضية من القضايا بل هي منظمة تتكون وتعمل من اجل التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي المستمر والمتواصل .

فماذا يعني ذلك وما هو الفرق بين المهمة الإصلاحية والمهمة التغييرية في منظمة المجتمع المدني..؟

أولا : أن نهج الإصلاح وقتي ومحدود ،

بينما نهج التغيير دائم وشامل .

ثانيا : إن الإصلاح نهج علاجي لداء يأتي لاحقا بعد نشوء مشكلة من المشاكل .

بينما نهج التغيير نهج مبكر يأتي لتلافي حصول مشكلة من المشاكل.

ثالثا : إن النهج الإصلاحي يستند ويعتمد على الممكنات ،

بينما نهج التغيير يخلق الدور الإستراتيجي بعيد المدى لتنمية المؤسسات المنتجة والخدمية .

رابعا : إن الإصلاح مهمة روتينية بطريقة ما ،

بينما التغيير يتطلب إبداعا متواصلا في الميادين كافة .

بصدد النقاط الأربعة السالفة حول مهمات المجتمع المدني فأن دورا أساسيا وفعالا لنشر وتقويم ثقافة المجتمع المدني يقع على عاتق مجموعات المثقفين الإبداعيين والتكنوقراط معاً ، بمعنى أن المثقفين يستطيعون هم قبل غيرهم أن ينشروا في أعماق النفس الإنسانية العراقية مبادئ قبول الحوار وإدارته حول أية قضية من قضايا " الاختلاف " أو حول قضايا تطوير وتوسيع وترسيخ " الاتفاق " داخل المجتمع المدني ومكوناته وأطرافه .

المثقفون عن طريق مبادراتهم في منظمات المجتمع المدني يملكون بلا شك القدرة على أن تكون ثقافة المجتمع المدني ركنا أساسيا من أركان إدارة الحوار الديمقراطي حول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلف عليها أو حولها في لحظة زمانية معينة .

في اطارهذه المهمة المدنية بالذات ينبغي أن يلعب المثقفون ورجال الأحزاب الديمقراطية ورجال الحكومة دورا في تمكين مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية ومنحها دورا قويا وواسعا في المدينة الكردية وفي الريف الكردي وفي الجبال الكردية وتخليصها من كل أشكال الإكراه الاجتماعي .

مع قدوم عصر الحرية والديمقراطية في وطننا تغيرت وتتغير الأمور كلها:

أولا تتنامى في مجتمعنا فكرة أن المواطن العراقي قد استعاد قيمته النابعة من صفته كفرد إنساني .

وثانيا ظهور قوى ومكونات الشعب العراقي كوحدة إنسانية متآلفة متميزة ومنتمية للحضارة العالمية الواسعة .

عن هذين التغييرين ينجم أمران :

الأول ضرورة الاعتراف بالقيمة المطلقة والسامية لكل مواطن عراقي.

الثاني ضرورة احترام إرادته وصنعته وأهدافه داخل الأطر القانونية.

لتحقيق هذين الأمرين ، خاصة بعد أن ينتهي وجود الاحتلال الأجنبي في مستقبل قريب ، ينبغي توفير عناصر الوعي لدى العاملين في منظمات المجتمع المدني ( الدورات التدريبية داخل العراق وخارجه ) وإذا ما توفرت عناصر ومستلزمات التنوير ( صحف مجلات وإصدارات كتب ومواقع انترنت وإقامة الندوات وورش العمل ) لتمكين المنظمات والناس على ممارسة الرويـّة في العمل والانجاز القائمين على نظرة المدى البعيد والقناعة اليومية لتحويل المدينة الجبلية الكردية النائية و القرية الصغيرة في الاهوار إلى مركز مدني كجزء من خارطة التغيير الاجتماعي وتحويل جميع المدن إلى مصدر من مصادر القوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية .

هذا هو الهدف الأساسي من وجود منظمات المجتمع المدني بتصور فاعل وليس بوجود شكلي جامد.

لقد لاحظت بالفعل وجودا جامدا للعديد من منظمات المجتمع المدني التي تأسست خارج العراق وانتقلت إلى داخله أو تلك التي تأسست في الداخل منذ ما يزيد على السنة والنصف لكن حركتها ظلت محدودة النشاط والنتائج - لأنها ظلت عاجزة عن دورها في تحقيق توازن المجتمع والمساهمة في التغيير الاجتماعي .

عندما أتحدث عن مدنية المجتمع الكردي فأنني أتحدث عن مدنية ارض الأكراد الذين شهدوا على مر تاريخ طويل صنوف العزلة والعذاب والآلام كان خلالها الشعب الكردي يتطلع إلى تجاوز معطيات واقع الرعب والتخلف عبر أحلام كثيرة في مقدمتها :

أولا أن يحكم نفسه بنفسه .

وثانيا أن يبني "مجتمعا مدنيا " محاطا بالجبال الثلجية العالية من كل مكان ..

وإذ تحرر العراقيون بالخلاص من دكتاتورية نظام صدام حسين والعبور إلى مرحلة جديدة ، بضرورة الخلاص من الاحتلال ، ابرز علاماتها هي التطلع إلى الحرية والديمقراطية لجميع العراقيين فأن ذلك يمنح الفرصة الواقعية والتاريخية لتنمية العلاقة الجدلية بين أبناء الشعب العراقي كله لابتداع مقدمات التغيير نحو المجتمع الديمقراطي الأفضل.

وتأتي فكرة الفيدرالية الكردية كمعمار سياسي و كثقافة تمتلك الحيوية الدافقة والتجدد الاجتماعي المتواصل لتحقيق عبقرية الموازنة الاجتماعية والسياسية في إدارة وتنظيم العلاقة بين ما هو ثابت ومتغير ، وبين الخاص والعام ، أي بين السلطة المركزية واللامركزية ، بين السلطة العراقية العامة والسلطة الفيدرالية الكردية .

تتركز الموازنة المطلوبة على ثلاثة أسس وطيدة ينبغي الاعتماد عليها مركزيا وفيدراليا وهذه الأسس هي :

1 – بناء مؤسسات التعليم كافة على أسس تربوية علمية.

2 - نشر ثقافة المجتمع المدني على نطاق جماهيري واعني نشر ثقافة الجدل وحرية التعبير والتسامح . ( هذه المهمة ملقاة على عاتق المثقفين الإبداعيين والفنانين والصحفيين ) .

3 - بناء المجتمع المدني على أسس التكنولوجيا الحديثة . ( هذه المهمة ملقاة على عاتق المثقفين من العلماء والتكنوقراط ) .

في حالتي نشر ثقافة المجتمع المدني وبناء أسسه تلعب الجامعات دورا مصدريا رئيسيا .

من سمات الواقع الحالي وهو واقع متخلف ينبغي البحث الدائم عن خطاب ثقافي جديد يسهم في تحقيق إشادة المجتمع المدني في الوطن العراقي كله من جهة ويؤكد الهوية الثقافية للمواطن في أفعال مبادراته المنطلقة من وجوده الأثني أو القومي .

ولكي يحقق المواطن الكردي حركته الحرة المستقلة فان أول شيء يحتاجه هو بناء شبكة علاقاته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بعيدا عن أشكال الهيمنة والتبعية التي سادت في العراق منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ..

وفي الحقيقة أن هذه الغاية النبيلة لا يمكن تحقيقها إلا بثقافة المجتمع المدني القادرة على إعلاء شان الهوية الثقافية للأمة الكردية وتخليص المجتمع الفيدرالي من النموذج السياسي المحدد أو المنغلق اللذين قد يواجهان بناءه في مراحل مختلفة من عملية تحويله المرتقبة إلى فضاء ديمقراطي مفتوح يتميز بالخصوصية الإبداعية في المنطقة كلها في ميادين النضال من اجل دمج حقوق الإنسان الكردي في مناهج التعليم العام والتعليم الجامعي العالي وفي منظمات المثقفين وفي منظمات المجتمع المدني . ولا شك إن هذه الخصوصية الإبداعية تحتاج أول ما تحتاج إليه لتسييرها هو توفير ورش الخبراء من داخل كردستان وخارجها ومن داخل العراق وخارجه . فكلما استطاعت المنظمات اكتساب الخبرات العملية من تجارب الشعوب والبلدان الأخرى خاصة تجارب البلدان الأوربية كلما اتسعت منطلقات عمل منظمات المجتمع المدني في الإيمان بكرامة الإنسان الكردي وحقه الأصيل في الحياة والسلم والحرية والتمتع بكافة حقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية والفردية المنصوص عليها في المواثيق والمعاهدات الدولية و في الدستور العراقي المؤقت الصادر عام 2003 وفي أغلب برامج الأحزاب السياسية الجماهيرية الأصيلة .

إن الشعب العراقي كله يتطلع الآن إلى اجتياز مرحلة الانتخابات البرلمانية وما بعدها صياغة الدستور الدائم وتعزيز مبادئ سيادة القانون وتكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين كمعيار أساسي لأصالة الشعب العراقي وتمسكه بخصوصية الثقافة الديمقراطية وثقافة المجتمع المدني التي هي الضمانة الأساسية ضد أي انتهاك للحقوق الأساسية للشعب الكردي وغيره من الشعوب والقوميات والشرائح الدينية ، كالتركمان والكلدو آشوريين والصابئة واليزيديين . وكضمانة ضد أي شكل من أشكال اضطهاد المرأة العراقية وضد أي شكل من أشكال الاستعلاء الديني والعرقي والثقافي .وكضمانة أيضا لبناء إستراتيجية التنمية الاقتصادية تنمية عادلة ومتوازنة في أنحاء العراق كافة في الجبال والوديان .

على ضوء ما تقدم أدعو المثقفين الكرد إلى تأسيس ( البرلمان الثقافي في كردستان العراق ) ليكون أوسع شكل من أشكال المنظمات الثقافية غير الحكومية ، وليضم المبدعين من مختلف الأنواع والفنانين والتكنوقراط ومن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية في جميع المحافظات والمدن الكردية ، لينهضوا بمهام تقوية قدرات المجتمع المدني في كردستان العراق لنشر ثقافة حقوق الإنسان والاستفادة من خبرات وتجارب المنظمات الدولية والإقليمية والعمل على دعوة البرلمان الكردي الجديد والبرلمان العراقي أيضا لإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات العامة والشخصية التي تحد من نشاط منظمات المجتمع المدني لدعمها وتشجيعها على التعامل مع واقع المدن والأرياف الكردية واعتماد أساليب الشفافية والحوار لبناء وحدات وبرامج ثقافية في كل تكوينات المجتمع الكردستاني وتحقيق استقلالية أجهزة الأعلام والثقافة وتمتعها بالديمقراطية والشفافية والتركيز .

وكذلك التركيز علي مسألة الحريات الإعلامية والثقافية من جوانبها الثلاثة : (1) حرية الرأي والتعبير (2) وحرية تدفق المعلومات (3) وحرية امتلاك الوسائل الإعلامية للكافة وبدون تمييز. يتضمن ذلك حق الأحزاب السياسية والجماعات العرقية والدينية والنقابية والنسوية والشبابية والطلابية كافة في حرية النشر وحرية تدفق المعلومات وحرية امتلاك وسائل النشر،

و وضع مواثيق شرف من منظور حقوق الإنسان لكافة قطاعات الإعلام والثقافة تنبع من العاملين في هذه المجالات أنفسهم وتعبر عنهم بصورة حقيقية . يتضمن ذلك الالتزام بأن يعكس الإعلام والعمل الثقافي التنوع الثقافي والأثني والديني واللغوي والسياسي في كردستان ،

ويدعو لثقافة السلام عبر كافة وسائله ورسائله ،

ويتضمن حظر كافة المواد الإعلامية والثقافية المروجة للحرب أو أية دعوة للعنصرية أو العنف والكراهية والفوضوية ، وتجنب تقديم المواد التي تعكس الصور النمطية السالبة لبعض المجموعات العرقية والإثنية واللغوية ، ويتضمن التركيز علي أن الحقوق توازيها واجبات علي الأفراد والجماعات القيام بها كما يتضمن الالتزام بنشر وحماية الثقافة الخاصة بالملكية الفكرية وحقوق التأليف والإبداع في المجالين الثقافي والإعلامي.

ومن أهم القضايا هنا النضال من أجل رفع كافة أشكال التمييز ضد المرأة في المؤسسات والأجهزة الإعلامية وحفظ كرامتها وإرادتها الفردية وحمايتها من كافه أشكال الاستغلال والتبعية في الزواج والملبس والتعليم والسفر وتقييم حقها ومواقعها في المشاركة العادلة في مسؤوليات الحكومة والدولة وجميع مراكز صنع القرارات .

إن العراقيين ، جميعا ، بحاجة إلى خطاب ثقافي يسهم في تحرير المواطن العراقي على كل المستويات وفي كل الميادين وفي مقدمتها توفير الحرية السياسية التي هي أساس الحرية الفكرية والإبداعية . ومن الظواهر الرئيسية في كردستان العراق وجود أساس هذا هذا النوع من الحرية القادرة على خلق انعكاساتها الايجابية على المثقفين العراقيين في كل أنحاء الوطن المتجه نحو التسامح والاغتناء بحق الاختلاف واحترام مبادئ التعددية الخلاقة مما يستوجب التلازم (الثقافي - السياسي ) لتأكيد ممارسات الحرية الفكرية والإبداعية على نطاق الوطن بتدعيم مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته المستقلة غير الحكومية بما يجعلها مصدر قوة وثراء للعراق كله بعيدا عن التطرف بضرورة التعامل مع الخطاب الديني بصورة تؤكد احترام حرية الاعتقاد والاجتهاد المتبادل .

إن الشرط الأهم والأكثر صعوبة لتوفير مجتمع مدني هو وضع خطط ومستلزمات تنمية ثقافية مدنية معاصرة يلتزم بها جميع أطراف المجتمع المدني والفاعلون فيه وبمشاركة جماعية في صنع القرار والحوار وإتباع سياسة التسامح واحترام الرأي الآخر وإدارة الاختلافات بوسائل سلمية وبوسائل احترام التعددية وحرية التعبير والبحث الديمقراطي عن مجتمع ٍ إنساني ٍ حق ٍ عن طريق الإبداع الفني والأدبي باعتبارها الوسائل الأكيدة في استكمال مقومات الشخصية العراقية بما فيها الشخصية الكردستانية عبر الاشتغال بالنشاط الثقافي المتوازن إبداعيا ، و قوميا ، وعقائديا ،واثنيا ,وطبقيا، واستبعاد كل ما يؤدي إلى أي شكل من أشكال النمو غير المتوازن بين مكونات الشعب العراقي ورفض كل شكل من أشكال التطرف في مواجهة وحل المشاكل التي تطرحها التنمية الثقافية واثبات الهوية الوطنية..

بناء على هذا المنطلق أرى ضرورة تأسيس ( المجلس الثقافي لكردستان العراق ) كمؤسسة حكومية رسمية باعتباره أداة الفيدرالية الثقافية و يتكون من اختصاصيين وفنيين ومثقفين من المحافظات الكردستانية يجري تعيينهم من قبل وزارة الثقافة العراقية ( المركزية ) بترشيح ٍ من الاتحادات المهنية الكردية والتركمانية والآشورية واليزيدية . ويلعب المجلس ، دور المركز الثقافي الوطني في كردستان العراق والعمل على إعادة تسهيل ونشر ورواج السياسة الثقافية الديمقراطية ووضع أسسها في المناهج المدرسية والجامعية وغيرها في هذا الجزء الحيوي من الوطن ولتحقيق ما يلي :

- العمل وفق برنامج محدد يضعه مختصون، لإعادة مكانة ثقافات شعوب كردستان العراق من الأكراد والتركمان واليزيديين والكلدو أشوريين إلى الحياة الثقافية والفنية بكل مواهبها ومستوياتها وخلق الظروف المناسبة لتنميتها وتأمين مشاركتها الناشطة في الحياة الثقافية لجميع أبناء العراق ، والمساهمة في العروض والمهرجانات العراقية التي تجري خارج الوطن وخاصة في البلدان العربية الشقيقة .

- يساهم المجلس في اتجاه عمل منظم ومشترك مع جميع المؤسسات الثقافية والاتحادات الأدبية والفنية الموجودة في محافظات كردستان والعراق كله من اجل حماية التراث الثقافي والقيم التي تعبر عنها جميع أقوام كردستان بلغاتها الخاصة وتقاليدها الموروثة . وان يكون المجلس قادرا على اقتراح القوانين الثقافية وعلى نقض القوانين المقيدة للإبداع واستبدالها بأخرى نشيطة ومنشطة .

- ضمان مشاركة حرة وديمقراطية بين مختلف الجهات الرسمية المركزية والفيدرالية في تقرير وتنفيذ السياسة الثقافية في كردستان العراق ، وترتبط هذه المشاركة بالسياسة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية وبسياسة البيئة والسياحة في كردستان .

أهم مبدأ ثقافي في العهد الديمقراطي الذي يراد بناؤه هو احترام التعددية الفكرية والثقافية احتراما مطلقا وذلك بالسماح باستمرار وتنمية ثقافات وأساليب عيش مختلفة للإنسان العراقي الذي امتهنت كرامته وسلبت حريته لأربعة عقود عزلوا فيها الشباب العراقي عن طاقتهم التنموية التي افقدها الفاشيون توازنها وافقدوها هويتها العراقية الحضارية بحرفها نحو الحروب الداخلية والخارجية والاعتداء على الجيران وممارسة أعمال الغزو وارتكاب جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي إضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان .

الخلاصة أنني سعيتُ من اجل وضع المثقفين الكرد أمام مهمتين لا ينجم عنهما منافسة:

الأولى هي الدعوة إلى وضع نشاطات المثقفين الكرد في إطار منظمة مجتمع مدني يطلق عليها عنوان( البرلمان الثقافي الكردستاني ) وهو منظمة غير حكومية .

الثانية هي الدعوة إلى وضع العدالة الرسمية عند الحكومة المركزية بالتكيف في تأسيس (المجلس الثقافي الفيدرالي لكردستان العراق) وهو منظمة حكومية .

وفضيلة الرأي بالكمال تبقى لقرارات خاصة يبلورها المثقفون العراقيون عربا وأكرادا وغيرهم من الأثنيات وأن أي تنمية ثقافية في كردستان هي تنمية ثقافية للعراق كله تماما كما أن تنمية إنتاج نفط البصرة هو في صالح الشعب الكردي و تنمية إنتاج فواكه كردستان وزيتونها هي في جوهرها تنمية لموارد العراق كله .

أهم شيء يجب أن نتذكره في هذا الزمن هو فضيلة قول كارل ساغان : أن كل مجتمع قد يميل إلى التفاخر بفضائل عالمه وهندسته الكوكبية وتقاليده الاجتماعية وميوله الموروثة ، وسوف تكون الاختلافات الثقافية ، بالضرورة ، عالقة بالذهن ومبالغا فيها . لكن هذا التنوع قد يخدم كأداة لاستمرار البقاء .

ــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 12 – 3 - 2005

* كاتب عراقي مقيم في هولندا .. نشر حتى الآن 26 مؤلفا في السياسة والاقتصاد والأدب . منها النفط والاستعمار والصهيونية و كتاب الانفتاح الاقتصادي في مصر وكتاب الاحتكارات ونفط الأوبك ، وكتاب الكارثة عن غزو الكويت . كما نشر عشر روايات .

 

 

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com