|
سعده يا حلاها
موسى غافل الشطري
على خلاف ما يجري من تحضيراتٍ غير اعتيادية لمناسبات الأعراس للمحظوظين آنذاك وأصحاب المقدرة، على إحياء ثلاث من ليالي الطرب المتواصلة، من الرقص والغناء والزغاريد ثم تتقدّم مجموعة من الشباب حاملين إناءً كبيرً مليئاً بالشموع المتألّقة وأوراق (الياس) والحنّاء ومنديلين أبيضين. ثم ينهض العريس ووزيره ويوضع الحناء في الكف الأيسر ويجري لفّهما وسط الزغاريد. عدا زواج حوّاس وفدعه. فلم يحظ بأي استعداد له شأن. كان زواجاً أخرساً، يسمونه لِسِتْر الحال. فلا ( فدعه) السوداء في قناعة أهل الثواب، ولا ( حوّاس ) الأسود يصلحان لزواج أفضل مع الآخرين. فالمرأة وعمرها يقترب إلى سن الأربعين قد يعسر عليها الإنجاب لوتأخرت قسمتها أكثر. وهي أيضاً تعاني من ضعف البصر. القدره على تدبير لقمتها، لكنها قادرة على إصلاح ذات البين. وزوجها كفيف البصر لكنه دائب في البحث عن رزقه بفضل صلابة عظمه. وهما،في كل الأحوال، يعيشان بين أناس طيبين. وفي الخربة التي هي وقف لعائلة نزحت عن المدينة منذ عشرات السنين. ولا يعرف مصيرها. كل ما يعرف عنها أنها مـن العائلات ذات الانحدار العثماني. لهذا ظلت الخربة مشاعة لمن يستغلها. فاتخذ الاثنان زاوية منها لإنشاء كوخ زري الحال. احتياجاتهما.. لم تكن أكثر من ( كوز) (1) للماء وكاسة للشرب. وقٍدْرٍ أحياناً يسعفهما الحظ لشراء ما يصلح للحساء والرز المطبوخ. ولما تجود به عائلة محسنة. وفراش وغطاء ووسادة، هما من أسمال الآخرين و(لمبة)(2) للإضاءة، تحتاجها ( فدعه ). أما (حوّاس) فهوفي غنى عن الإضاءة. وإبريق ماء لقضاء الحاجة وللوضوء. يومئذ وَحِمَتْ ( فدعة ) , كان يتوجب عليها أن تحقق أُمنيتها، حالها حال بقيةالنسوة اللواتي يوحِمْن ويطلبن من رجالهن نوعاً من الأكل كأن، تشتهي كبداً، وطحالاً، وتشتهي نوعاً ربما يشذ عن المألوف مثل طين ( الخاوه ) (3) تأكله. وأحياناً قشرة ارض ملية. وكأن تشتهي نوعا من الفاكهة كالبرتقال ورمّان وعنقود عنب. وغالباً لوحَكَّّت امرأة وَحْمى جبهتها وخدها ومكانا آخر من جسدها بأظافرها لتُرِكت أثراً على الموضع الذي قد تعرّضه لذلك عند الولادة. فربما ينطبع على جلد الوليد ما يشبه عنقود العنب على الخد والجبهة وأي مكان ويشوهه. بيد أن ( فدعة) تعرف أن زوجها ( حوّاس ) الضـرير غير مُؤهل لهذه المهمة وهي لا تجد من يوفر لها ما تشتهيه. لكن يسهل عليها الحصول على طين الخاوا من معارفها ومن السوق لتدنِّي سعره. وقشرة الأرض الملحية، فهذه هينة وفي متناول اليد. لذا كانت تتلافى أن تلمس مكانا معيناً من جسدها. رغم قناعتها إن سمرة وليدها الداكنة لن تَتْرك أَثراً واضحاً حتى لوحدث ذلك. وما يشغل فكرها ليس لكون الجنين ذكـرا أُنثى. إنما كيـف تكيّف وضعها بين الولادة والسعي لحصولها على تواصلها مـع البيـوت التي تدأب على كسب قوتها خلال زياراتها. وفي الحق كان يشغل بالها أحياناً أن يكون لها ولد يكسـب رزق والديه عند الكـبر. فالبنت غير موفقة في مثل هكذا واجب. كما هومهيأ للذَكَرْ أن يأخذ بيد أبيه ويقوده، وإذا ما كبر فإنه يستطيع أن يعوّض عن سعي والده للحصول على جزء من قوتهم وبذلك : إذا كان لابد لفم ثالث يحتاج إلى غذاء ويحل في هذا الكوخ المتداعي، فلعلّ الأمر فاتحة خير لكي تكون لقمتهم فيها ما يوفر الشعور لديهم بعزة النفس من انعـدام حاجتهم إلى اللـقمة التي يتصدق بها الآخرون. ولكن : في مثل ظروفهم هذه، يصعب عليهم لقمة اليوم. إنها، وإن كان الأمر بيد الخالق، تحلم بولد يتكلّف مهمة السعي للحصول على قوتهم. وربما وُفِّق في اقتداره على إدارة شؤون العائلة. كان (حوّاس) يتخاصم معها دون ضجيج، لكي يضع يده على بطنها، حتى لواقتضى ذلك غضبها. لا يعلم إن كانت تستثقل من عسر ظروف الحصول على لقمة ثالثة. يصر حوّاس، ويصر أن يضع يده هناك لكي يشعر بحركة الوافد المنتظر، فيمسك بذلك الشيء الذي يتكـوّر, ربما هوركبة الطفل وساقه وقَدَمِه وكوع زنده. ويطغي لديه الإحساس بكونه ينجب حاله حال الخلق. فكان يبتسم، وعلى عادته تنتصب رقبته لكي يبقى وجهه مترفعاً كأنه ينظر إلى سقف الكوخ، كأن هناك في الأعلى ما ينصت إليه وينبئه عن هذا الوافد. ويتراءى له ذلك اليوم القادم ويشاهد فدعة تتمخض. وإن كانت فدعة لم تتحدث معه بشيء يوحي عن التداول بينهما بشان الوليد المرتقب. ربما يحسّان أنهما غير قادرين على تدبير احتياجاته. وأن الولادة في هذا الكوخ، غير مؤهل أن يولد فيه مخلوق، ذكر وأُنثى. ولكن حوّاس لا يشترط أن تقوده أُنثى وذكر. إنه يريد طفلاً يقوده فحسب.. وفي أواخر أيامها لمّحت لها إحدى معارفها إن الطفل هابط ويوحي بقرب وضعها. غير أنها في تلك الليلة بدأت تحس بالثقل ترافقه نوبات من الألم ما لم تألفه. حـدث هذا في منتصف ليلة كانت قد عجت بالأتربة والريح الشديدة التي حلّت عليهما في أوائل أيار ذوالطقس المتقلب، ما أُصطلح عليه باسم ( غياب الثُريّا ) (4).. بدأ الجوتزداد رياحه صخباّ واكفهراراّ. فكأن الريح عـازمة أن تقتلع الكوخ. وبدأ المخاض يجتاح (فدعه ) ويجرف بأحشائها. كانت المرأة تتصارع مع آلام المخاض بكل ما أُوتيت من قوة. وقد بدأت ولادة المخلوق الجديد في ظروف غير مرحب فيها. لم تكن قد أبدت أي ذرة من الرحمة والمهادنة. في ذلك الزقاق الضيّق المتعرج، في كوخ قصبي متداع لا يكاد على النهوض أمام عوامل الطقس وتقلباته. بل يكـاد أن يسجد على قاعه أمام محنتهم لضعف قوائمه، هوملاذ لأبوي الطفل المنتظر. وكانت ترشد زوجها كيف يفعل لكي يسحب الطفل الذي أبى إلاّ أن يكون عصياّ كأنه لا يريد أن يغادر رحمها. مع ذلك كان الرجل الأعمى دقيقاً ذكياً كما لوكان قد مارس مثل هذا الواجب. واستطاع أ ن يسحب المولود، وفيه انطلق صراخ المخلوق الوافد توّاً يتصارع مع الجوالعاصف الضاج بعوائه. من جسد بأصالة دم الأبوين ولون جسديهما الداكنين. يغزوصوته العالم بنفس القدرة لأي مخلوق سواه. وسرعان ما تلمسه ليتأكد من كونه بنت، فيحمد الله على السلامة، وترشده ليضع السكين على النار وتهيؤها لقطع السر عن المشيمة ثم تطلب منه أن يمسك بالطفلة كي تعقد بقايا السر، ويسحب الوليد جانباً. واستمر الوليد على إغماض عينيه كأنه يرفض رؤية العالم الجديد. ثم هدأ الصوت وبدأ يتواءم بصمت مع الريح المغبرة التي تعصف بالعالم الجديد، كما لوكان مُلزماً بالصمت ليستمع إلى تعاليـمه الغريبة، وكان صمت صوت الوليد يهيئ نفسه للخوض فيما يواجهه، لجعل حياته تقبل بكل ما عليه من واجبات التي ينتظرها الآخرون. وبكامل أحقية التعامل المتبادل. في اليوم الثالث استقر رأي فدعة أن تسميها باسم ( سعده ) سميت هكذا.. ربما لكونها شبيهة بلون السعد وتباهياً بنكهته الزكية (5). وربما للبؤس الذي تعيشه، كما كانت عليه أُمها من حال، فسميت باسم (سعده). والفقراء ميّالون لاستعمال الأسماء التي ترمز إلى التهكم والأسماء القبيحة لكي يبعدوا عنهم النحس والشر الذي يصاب به الوليد والأم والعائلة وهزأًً بسوء الحال. وتوالى عليها من معارفها اللواتي تتواصل معهن كل ما تحتاج كقطع القماش التي يتوجب أن توفـرها لتقميط الوليد، واستخدامها للحاجيات التي يحتاجها الطفل. مثل هذه.. من العسير أن تتوفر من تلقاء ذاتها، وشرائها، بل أملت أن يتحسس الجيران وغيرهم من النسوة ويوفرن لها مثل تلك الحاجيات، وتهيئة الكمون واليانسون والكزبرة والجُوِيْفة(6) وما شابه. وقد حصلت على بغيتها، بـل وأكثر من ذلك، إنها تحصل على ثياب أطفال، بعضها بحالة جيدة. وفي ظل هذه الولادة التي زادت الأم قناعة، بأنها مباركة. فقد تحسن غذاء الأم. وكثرت زيارات المحبات. وتجرّأت الأم أن تتوفر لديها القناعة : إنها ولادة لا تبدوشاذة عن الولادات الأخرى. إنما حالها حال تولّد العائلات الفقيرة وحتى الغنية. بل تجرأت ( فدعه ) أن تقتنع : بأن وليدتها حظيت برعاية واهتمام وعطاء. بما وفر لها كل ذي أهمية لمثيلاتها من الملابس. كانت فدعة ( حاشاها ) كبقرة غزيرة الحليب. ولأجل ذلك لم تواجهها مصاعب تنغص عليها تبعات ولادتها. وحتى الطفلة، بدت كأنها على مقدرة غير اعتيادية لتلافي الحالات المرضية. رغم أنها بدت بشعر أشبه بصوف الحمل، مجعّد، قصير،. وان رأسها يبدوكبيراً.غير أنها تبدوذات بشرة شفافة، وعيون لامعة متأملة. وتعوّدت الأم، مع تقدّمْ عمر الطفلة، وتجاوزها مرحلة الأربعين يوماً، أن تنتهز الفرصة المناسبة لتدلل الطفلة، حيث تضع حلمة ثديها بين شفتيها فتتلقفه بشراهة، وتذهب عيناها منصرفتان إلى وجه الأم، فتبتسم فدعه وتتُلَقّفها بين يديها إلى الأعلى وتنغم لـها بالأغاني بصوتها العـذب، تماماً كما تفعل الأمهات الأخريات مع اطفالهن، من ذوات الأصل والفصل. في مرور الأيام يزداد صوت الأم أكثر وضوحاً تحدياً لشعورها الذي كان سائداً من قبل، بأنها تقلل من أحقيتها أن تناغي لطفلة سوداء: (سعده يا غلاها كصايبها وراها إجا الخطاب يخطبها وبوها ما نطاها)
تردد تلك الأغنية بصوت خافت – في البداية – كأنها تغتصبه من غيرها بدون حق. وأنها تبالغ في أن تمتلك طفلتها في المستقبل ضفائر كغيرها من ذوات البشرة البيضاء. تكرر ذلك عدة مرّات وتُطبق بها على قلبها. وتُقبّلها، كما تُقبّل أية أم وليدها. ما الذي يعوز (سْعيده ) ؟ كل ما يصنعه الرب للأطفال المولودين منحه لها. لم ينقصها من الأعضاء الخفية والظاهرة أي شيء. ( فدعه) وهي تناول ثديها لطفلتها، لا تحس لأحد امتيازاً عليهاً لأي طفل : إلاّ بلون البشرة. ولماذا تبدوبشرتها شاذة ؟ اليست هذه الحياة زاخرة بأمثالها؟ أمسكت بها مرة أُخرى لتقذفها إلى الأعلى وتتلقفها بين ذراعيها فتردد كأنها تتمنى أن تعتاد الأُخريات على مساواة ابنتها مع غيرها: (رَبْها ما ظلمْـها اْعطاها تَرس صمْها حَطّ لْها مثل البْنيات وِبْثوبها حِشـمْها) تمضي الشهور وتعتق ولادة سعده، مثل أي حدث من الأحداث غير الاعتيادية. ويقل العطاء تدريجياً الذي يؤتى به إليها. حينذاك.. كان يتطلب من فدعه أن تقوم بعد نهاية الأربعين يوماً، وتعود إلى طرق الأبواب. ليس باعتبارها متسوّلة – حاشاها من ذلك-ـ بل عزيزة النفس. لها من يترقب قدومها. مرحّب بها من البيوت التي اعتادت أن تحصل على عطاياهم. أن فدعه ما كانت في يوم ما تَمِدُ يدها كمتسوّلة. بل حالها حال المحتشمات، رغم سوادها. رغم فقرها المدقع. لكنها حافظت على سقف مرتفع من حشمة النفس. من طرافة الكلمة والنكتة الجاهزة.هي يمكن أن يقال : عزيزة النفس وأَذَلّتْها الحاجة وليس سواها. حتى النسوة اللواتي تغشي بيوتهن يتعجبن لصمت الطفلة. فهي لا تميل للبكاء. كما لوأنها تتهيّأ لِتَحَمُُّّل أعباء حياة صعبة.
* * * لم يكن حوّاس بحاجة إلى ما ترسله ( اللمبة ) من بصيص ضوء بالكاد تهتدي(فدعه) بضوئه. في حين كان حوّاس يمد أصابعه ليلمس جسد الصغيرة ويظل رافعاً رأسه إلى سقف الكوخ كأنه ينصت لوحي ما وهويبتسم. ويظل دائباً على عزفه بأنامله على ركبتيه. إنه لا يسأل عن شكل بشرتها فهويقر بكل قناعة لونها الذي ينتمي إلى فصيلتهما. وسوف تنشأ ( سْعيده ) بنفس اللبن ونفس الطعام الذي يمن عليهما به الناس، ونشأت صلبة العود داكنة اللون. حافية القدمين رثة الثوب. كأنها تتحدي تقلبات الطقس. ما تلبسه في الصيف تلبسه في الشتاء. مع ذلك هي معافاة كأنها تتحدي الأمراض التي تنزل بصحة الأطفال المدللين. عاشت عائلتهم على الصدقات. وأحياناً يحصل حوّاس على بعض النقود، مما يطلب منه في الغوص بماء النهر، حتى لوكان الطقس شتاءاً، باحثاً عن الأواني المنزلقة من أيدي النسوة أثناء جليهن قعوداً على أوطأ مدرج من المدرجات حيث تؤدي إلى مستوى ما النهر. وأشغال أُخرى تناسب ظروفه كضرير. ولقد عانت عائلته من هذا الكوخ الرث. فهولا يحمي من برد وريح، ولا من مطر. واعتادت سعده على مشاكسات الصغار وصراخهم خلفها، ووصمها بالقذرة. وما كان في حقيـقة تصورها : إنها قذرة. لكن الأيام الباردة آنذاك، ورقة ثوبها، يجعلها تتحسس رطوبة أنفها ولا تستطيع أن تعالج شعرها لكن الصغار لا يدركون ذلك فيرددون: ( يا سْعيده يا أم الوسخ، يا سْعيده يا أم الـﮜمل) (7). حقيقة كان شعرها مرتعاّ للقمل وغابة لبيضه. ولوتوفر لهم النفط فقد تعالجه أُمها فيه، ومرات بمسحوق (دي.دي.تي). وذات ليـلة مدلهمّة صبّت السماء غضبها بمطر لم تشهد المدينة له مثيلاً، أعقبتها ريح هوجاء لم يصمد كوخهم أمامها فتهاوى فوقهم. وفزع الجيران على صخبهم وصراخ الطفلة. واقتادوهم إلى أحد بيوتهم ودثروا الطفلة التي ترتعد من البرد بعد خلع ثوبها الناقع بالماء بغطاء سميك. وبقيت العائلة مع الجيران ريثما يتم بنـاء الكوخ من باريّات القصب الجديدة لجعله بحال أفضل وشراء فانوس جديد، وبعض الأغطية المستعملة. وكان ذلك مثار فرح البنت وأبويها. مثل هذه وتلك من الأمور لم تبرح مخيّلة ( سْعيده ) ظلت طيلة حياتها في المدينة، تشعر نحوالجميع بالمحبة وتتقبل بابتسامة وتستغرق بالضحك لما تتعرض له من مضايقة الأطفال. بل أحياناً تتعمد أن تتعرض لمشاكساتهم لكي يبتهجوا. إنها دائما تميل للتحلّي بطابع التسامح والإذعان، كما يفعل والداها،اعتقاداً منها إن ذلك حري أن يسهّل قسوة عيشهم. لذلك كانت ( سْعيده ) سرعان ما تلبّي أي طلب وبفرح. فعائلتها لا تملك ما يمكن أن توفي به غير ذلك.. فما يثير الغبطة والارتياح، هونسخة من النسيج السلوكي لعائلتها. و(سْعيده)، حالها حال والديها، جوّالة في كل مكان. مرّات دليلة لوالدها الضرير. ومرّات مرافقة لوالدتها في ذهابها إلى البيوت التي اعتادت عليها. ترافق والدها، والذي يصطحبها معه، صيفا وشتاءا. يذهب إلى مهابط النهر ويخلع ملابسه، ثم يهبط ليغطس ويلتقط الأواني الخزفية، التي تنزلق من أيدي النسوة إلى العمق. والكاسات النحاسية الغاطسة من أيدي جاليـات الأواني ووالدها الضرير الذي يهبط إلى النهر بحذر.كانت ( سْعيده ) تباري له مبتسمة وأغلب الأحيان تستغرق بالضحك، مما يجري من مداعبة النسوة معه. كان يرتعد شتاءا من البرد، لمكوثه كثيرا في غطسه ثم يعوم وفي يده إناء وفي أيام الصيف سمكة. والله يعلم كيف يصطادها، فهذا ما يجهله غيره. ويقال إن هناك ثقوبا يحفرها السمك في جرف النهر ولذا يعثر عليها حواس فيحاصرها ويمسك بها. يطل على النسوة عند أقدامهن، دون أن يفاجئهن وجوده. بل يستدعي ذلك إن يصخبن بضحكهن ويبتسمن أحيـاناً ابتسامة هادئـة، للعينين الغائرتين في الأجفان فهي حالة مألوفة، لكونه يمارسها باستمرار. يطل برأسه وحنكه، إن كان شتاء يرتعد ثم يغور في الماء ليقضي وقتا ًيستدعي العجب،لا القلـق ٍلأن النسوة يعرفن: إن لديه طاقة للتحمل تثير الدهشة والرغبة لديهن بأن يطيل مكوثه تحت سطح الماء أكثر من اللازم. ثم يعوم دون أي ملامح إعياء ولا كلام , ثم يغط، بعد أن يأخذ نفسا عميقا أما لماذا يتواجد في بحثه عند تواجد النسوة، فهذا سرّ لا ينتبه إليه أحد، ويؤّوله إلى أسباب أخرى. أما هوفقد كان يصغي لأغلب الأحاديث ويعرف بكل وضوح ما اسم صاحبة الكلام. يصغي لهذا الحديث ويعرف صاحبته باسمها. يجري هذا الحديث وسـط قهقهتهن، وطيف ابتسامة ترتسم على وجهه الأرقش وهويقترب بجسده منها سابحا ثم يفاجئهن بغطيطه وقتا طويلا كأنه يتباهى بقدرته، ثم.. يطل بنفس المكان. وتناديه واحدة منهن : ـ حوّاس هذي دعوه من شابَّة حلوة: أذا أنت رجّال، فوت عليها أحسن من أم سعده0بيك فائدة؟ فتقول الثانية وسط ضحكهن: ـ هوالعرس لعبة؟ عقد. وجهاز زواج. وغرفة نوم كاملة. وحجل ذهب،. وبيت شرعي. هل تعيش هي وفدعه داخل بيت واحد؟ قالت لميعة: ـ قابل هذي مشكلة ؟ ألتعاون واجب شرعاً على شغل البيت( وحده تفرش فراش والثانية تكنس الحوش)(8). ليلة عند فدعة وليلة مع سليمة. قالت سليمة بلسان اتخذ طابع الحدّة : ـ الذي تتكلم بهذا الكلام لازم هي الراغبة، المشتهي لا يستحي. قالت فضيلة وهي مستغرقة بضحكها : ـ إذا كان المشتهي ما يستحي.. لا يوجد ما يستدعي أن يتكلف أبوسعده بمصروفات زواج صعبة. مَنْ يريد شيء لازم يضحي بشيء. تمام لميعه؟ هذا يسير من كثير.من الحوارات والمزاح النسائي اللاتي لا يتحرجن مع حوّاس وما تتذكره سْعيده، التي لا تغثها، وتضايقها كثيرا مثل هذه المشاكسات من الكبار والصغار وهي لا تبدي اهتماما وأبوها لا يبالي. بل كانت هذه المداعبات تسعده فترتسم على وجهه طيف ابتسامة وكان يعرفهن بالأسماء من أصواتهن. بل ويعرفهن من حركة جليهن للأواني. لم يتكلم إلاّ قليلاً. وعندما يكون الكلام الموجه له خال من كل احتمال سيّء آنذاك يجيب. ربما يتصوّرن أنه لا يتعرّف عليهن،وعلى صاحبة الصوت ومن تكون. ويصادف أحيانا أن يستأنس بما تخبّث إحداهن فتدعوه أن يتزوجها0بل وأكثر من ذلك تتحدّاه لوكان فعلاً باستطاعته أن يفعلها، ثم تدّعي باسم إحدى رفيقاتها على أنها هي، فتحتج تلك وتضربها بالإناء الذي بين يديها. كانت الفاعلة سليمة. غير أن فضيلة تقبلت ذلك بضحك مستمر. وقالت سليمة: كم يشغلك الزواج؟ أليس من الأنسب أن تبحثين عنه ؟ قالت لميعه : ـ أنت بدأت والبادي اظلم. قالت سليمه ضاحكة : ـ هوالزواج فيه ظلم؟ إلاّ إذا أخَلَّ بليلة سليمه لخاطر فدعه. ضحكت فضيلة ورفيقتهن لميعة ومن الواضح أن حواس قد ابتعد عن هذا الحديث عمداً وغير متعمد. أردفت سليمة كأنها جادة بكلامها : - كم يشغلك هذا الحديث؟ قالت فضيلة ضاحكة : ـ وأنت... عفيفة نفس؟ قالت سليمة باسمة: - لا توجد عفة نفس بالنسبة للزواج. ولكـن هذه قسمة ونصيب، قد تتأخر وتبكر، وقد لا توجد واحدة منا نحن الثلاث في يوم غد، في هذه الجلسة، إلا ورحلت لتمارس الحياة الزوجية وتنتفخ بطنها. فالقضية قسمة ونصيب قالت لميعة: - كل شيء في وقته لا أعتقد أننا سنبقى العمر كله نتبحر بجسد حواس ونجلي الأواني , ولكن البنت ينبغي أن لا تفطر على سمكة ( جٍِرّي ) (9) لابد أن يكون هناك بيت وأولاد. ولا نعلم ما هي حسنات البيت والزوج والأولاد. وكأن حديثكن يعلن أن الدنيا فانية.. إنكن ستشاهدن أجساد أزواجكن عن كثب وسيفعلون ذلك هم أيضاً. فضحكن جميعاً وقالت سليمة: - يا فشلك يا ربّي!! قالت لميعة : - وما الخجل في ذلك ؟عل هناك أشياء تجري بغير هذا؟هل هناك أجساد بغير الشكل الذي تعودنا أن نشاهده هنا؟ إننا نشاهد جسد حواس عن كثب.ومن حسن حظنا إن حواس رجل أعمى ولا يشاهد مراقبتنا له. الطريق إلى الزواج سيفاجئنا بأشياء وأشياء، ويحل علينا دون سابق إنذار. قالت فضيلة ضاحكة : - ربما ستسبقيننا. قالت لميعة: - الأمر ليس بيدي ولا بأيديكن. الأمر بيد الأب والأخ. من الذي يختاراه؟ ما شكله؟ ما طبيعته ؟ما هوحجم بطنه؟ أشياء هما اللذان يقرراه ولسنا نحن. ومادامت الأمور تجري على هذا المنوال. فنحن رهينة جلي الأواني ومشاهدة تفاصيل جسد حوّاس،إلى أن يقرر مزاج الأهل إخلاءنا مما لا يعلمان ويتوقعان. ما نشاهده هنا. كانت سعده تنصت بانتباه لهذا الحديث. فهي تكاد أن تتصوّر أنهـن على أبواب خصام. ولكن الموضوع انتهى برحيلهن مـع أوانيهن وملابس الغسيل وأحاديثهن لم تنقطع. أما حواس فقد كان يصغي لأغلب الأحاديث ويعرف بكل وضوح كأن الحديث يداعب لديه أمنيات مقموعة. يصغي لهذا الحديث ويتذوق طعمه، تماماً كأي رجل كامل المشاعر. بيد أنه من حيث واقع الحال تنتفي لديه القناعة على أن الحديث الذي يدور له ما يعززه من جدية هذه المناقشة بين النسوة. بل أن الحديث التالي الذي دار بينهن أعطاه دليلاً على أنهن يمارسن نوعاً من المشاكسة، لقضاء وقتهن. أنه بالأحرى، لم يكن سوى وسيلة مُلَهِّية، يمضين بها لمداعبة تلك الممارسات المقموعة لديهن. وعندما يجدُ الجِدْ يستثنى ذِكْر حواس من الموضوع باعتباره سُبّة ليس إلاّ، ويتحول الكلام عن مستقبل حياتهن التي هي رهينة ـ كما ذكرن ـ بين أيدي أولياء أمورهن. أما حوّاس فيتحوّل وقته إلى نوع آخر من العمل في المساء، طالقاً صوته الجهوري عبر أزقّة المدينة : ـ سامعين الصوت.. صلوا على النبي. أولكم محمد وثانيكم علي.. على من شاف دجاجة، عليه أن يعيـدها إلى العمـة ( نوشه ). وعندما يعثرون ولا يعثرون على الدجاجة، فإن من كلّفَهُ بواجب التصويت ملزم بدفع مبلغ معين.
* * * هذا ما كان يحدث أمام سمع أبيها. أما بعد وفاته المفاجئة،فقد تعرّضتا إلى مصاعب في سهولة تدبير لقمتهما التي كانت أبان حياته تحصل العائلة على الأشياء التي يصعب عليهما طلبها لأسباب لها ما يبررها، ويعتبرن البوح بها معيباً. بعد وفاته دأبت أن ترافق أمها إلى بيوت أهل الخير ليأتيا بالمقسوم , بما يسد أودهما ليوم وليلة.كانت الأم ضئيلة الرؤيا. ولذا كانت تسعى للقمتها بالصدقة. دائما... كان الصغار يضايقون ابنتها. والأُم تبتسم دون أن يُعكِّر مزاجها ما يحدث مع البنت. إنما كانت تشاهد وتسمع بأُذنيها مدى ما يبدوعليهم من فرح غامر وتصفيق لما يتوقعون من وقت ملذ. لم يُكسف لها بال. ولا بال البنت التي تتعمد أن تعرض نفسها أمام الجميع لتثير صخبهم، بل وتتظاهر بإبداء دهشتها من ضحكهم كأنها لا تدري عن السبب. ذات يوم عندما دخلت (فدعه) مع ابنتها ( سْعيده ) تهللت وجوه الصغار، وسط ترحيب أُمهم وابتسامة أُم سْعيده. قرفصوا قربهن وقد لاح لسعده التي ابتسمت وكما توقعت أنهم يضمرون أمراً معها. ما هي اللعبة المهيأة هذه المرة؟ لا تدري. بعد هنيهة أمسكوا بيدها وشرعوا يسحبونها وسط ضجة من الغبطة، جريا ًإلى إحدى غرف البيت، والأم تواصل حديثها مع أُمهم. وفي الغرفة أغمضوا عينيها وقََبََض كبيرهم بأصابعه دقيقاً. متظاهرة بجهلها لما يفعلون.لكنها تعرّفت على الدقيق من رائحته. وفكرت ماذا سيصنعون. راح كبيرهم يصنع خطوطا على طول جبهتها وتحت عينيها وخديها وأشبه بالشاربين على شفتيها. ثم أمسكوا بثوبها من أسفل ظهرها وشدوا لها ما يشبه الذيل. لم تُظهر لهم تحسسها بل أخفت رغبتها بالضحك الذي ضاق به خافقها، وامتلأ صدرها بما كتمته، لا لشيء سوى أن تترك لهم فسحة من الوقت الذي يسرّهم ويرهق به الضحك صدورهم. كانت المرأتان يستغرقان بقهقهة صاخبة حالهن حال الصغار لما آل إليه منظرها. وحينئذٍ بدأت سْعيده تقفز وترقص على نحومثير. ولم تستطع أن تتحمل أكثر مما صمتت فاستلقت على ظهرها من شدة الضحك.وقد حاول الصغار أن يَجْروا بها إلى الشارع لكن أُمهم نهرتهم بحدّة. وقبل ذهاب سْعيدة إلى صنبور الماء لتغسل وجهها احتضنتهم وقبلتهم ودعكت وجهها بوجوههم.ثم أزالت القطعة التي صنعوها لها ذيلاً. كم كان يسرها أن يمزحوا معها ؟ كم يسعدها أن تحس بهم وبغيرهم : كونها لا يمكن أن يُستغنى عنها ؟ ولم تلحظ مضايقة من النساء والرجال، بل أن النسوة يسعدهن قدوم الأم، فهي لطيفة أنيسة، ذات نكتة حاضرة. تجيد معالجة اللـوزتين بالضغط على البلعوم بالأصابع، لاعتقاد الأمهات، أنها خنقت خنزيرا قبل أن يضعف بصرها0 لذا فهي تمتلك مبررات شفاء الأطفال.وقد أُتيح لسعده أن يلتقط ذهنها بعض الصناعات التي تصنعها نساء المدينة، مثل صناعة المخللات. وحياكة الكفوف الصوفية للكبار والصغار وطاقية للكل صغارا وكباراً وغير ذلك من المعلومات البسيطة. وهذا ما يملأ نفس سعده بالزهو. فهي تعتقد إن أمها لديها ما تمتلكه للأخريات وما يستدعي النسوة أن يترجّين مجيئها، وهي أيضاً تكسب خبرة بأشياء قد يسعدها الحظ وتحتاج لذلك. وأحيانا الذهاب إلى كوخها،مع هدية متواضعة، وإناء فيه طعام،وثوبا غير راقد (دفعة بلاء )... تلك أيام، لوتذكرتها ( سْعيدة )، كان أفضلها كدراً ولكنه مرضٍٍ لمشاعرها بيد أنها لم تكن أياماً سْعيدة. رغم أنها لم تُضايَقْ بعراك وإساءة جارحة، لكن كانت أياما مذلة. فقد يصادف أن يدخلا بيتاّ من البيوت، ويفاجآ بعراك داخل هذا البيت فيحدث أن يطردا. ويقال للأم والبنت بكلمات متشنجة. ـ أُم سْعيده بلا زحمه روحي. لأن كما ترين (عايطه العيطه) (10). تلك الأيام، في كل الأحوال... عندما يتذكرها المرء، يستدير بوجهه إلى الجهة الثانية (كسرة وجه وثلمة حاجب). فتعود أُم سْعيده صامتة. ولكنها تحس بوطأة المهانة. وتظل طيلة ذلك اليوم،حادّة المزاج. تُحَرّم على نفسها أن تتناول طعاماً. غير أنها لا بد من تجاهل ما يحدث وتعاود الزيارة. وآنذاك تحصل على عذر من تلك العائلة، فتتقبله عن طيب خاطر ويكون مزاجها على استعداد للتسامح. كانت سْعيده طفلة بائسة، لا تكاد أمها أن تملأ بطنها بفتات الخبز. فكلما نمت ازداد جوعها، وقلقت أمها من اصطحابها إلى البيوت. * * * إذ تلمست الأم بقلق ما نما على صدر الفتاة من نتوء. كانت الأم ترقب ذلك بخوف، وتتحسس جسدها، وتسمع صوتها، الذي تأججت إنوثته بوضوح، أشياء بدت واضحة لدى الأم، باللمس وبالنفح المضّّوع، بوطأة الخطوات، وحتى بضيق ثوبها، الذي لم يخفِ تفاصيل جسدها النافر. وكانت الأم تعلن في سرها : إن البنت بحاجة إلى عباءة. ورأت أن من الحكمة أن لا تتردد معها بين البيوت التي يتواجد فيها ذكور اكتمل بلوغهم. فهذا الأمر ينبغي أن تحذر منه، حتى وإن تطّّلّّب ذلك أن تموت جوعا. فالجوع ولا العار.هذا ما كانت تسمعه من أُمها وهي تنادم نفسهـا.عن هذا التغيّر الذي طرأ على تعـامل أُمها معها على هذا النحو. وكانت الأم في السابق تدخل البيوت دون وجل وخوف من أمر. لكن ابنتها أصبحت عائقا بينها وبين ما اعتادت عليه من تردد دون أن يغادرها هاجس الخشية. وأشد ما يقلقها : إذا وجدت فتىً في أحد البيوت، فأنها توقف تفكيرها على ما تتصرف به ابنتها. ثم تلوم نفسها لأنها اصطحبتها معها. وهناك صادفت أحد أبناء العائلة الذي لم يتملك نفسه فضحك مما كانوا يخبثون به مع سْعيده. ذلك اليوم ما أن عادت الأُم إلى كوخها من أحد البيوت هي وابنتها حتى دعتها أن تجلس بقربها وأمسكت بها من ذراعها بقوة موجعة وقالت لها: ـ لماذا لا تبدين مكترثة من وجود فتى في ذلك البيت ؟ ما الفرق بينك وبين البنات لكي تكوني حريصة على نفسك. قالت سعده بذهول : ـ وماذا جنيت؟ لم تجد الأُم عذراً مشروعاً لقلقها. ولكنها قالت : ـ عليك أن تحذري، فأولاد الحرام لا يحللون ويحرّمون. وأنت هكذا ترين أنك تتخطين مرحلة الطفولة. قالت سْعيده ولم تزل لم تفهم شيئاً : ـ هل فعلت شيئاً... أيقنت الأُم أنها ذهبت بعيداً بظنونها. لكنها استدركت لتقول للفتاة: ـ ألحذر، الحذر من أبناء الحرام. غير أن الفتاة بدا يلوح عليها، إنها بحاجة إلى إيضاح أكثر. وفي أحيان كثيرة تخرج أُم سْعيده عن طورها في تلك البيوت وتمعن في تعنيف ابنتها،إن وجدت فتى. دون سبب مشروع،مما يستدعي صاحبة البيت أن تلوم أم سْعيده على قسوتها مع البنت دون مبرر. وكانت أمها تستعيد تصرفها القاسي مع البنت وتلوم نفسها على قسوتها 0لكنها تقنع نفسها أخير بضرورة تنبيهها إلى حسن التصرف لكي لا يطمع فيها أحد.بيد أن الفتاة تحرج الأم إذ تسألها بحسن نيّة: ـ علّميني :هل فعلت فعلة سيئة؟ ما هي؟ أي شيء لا يرضيك حتى أبتعد عنه؟ حينذاك لا تجد الأم لديـهـا عذراً شافيا ترد به موضحة ما تقصده بالتحديد. لكن.. ما أن مضت سنة على ملاحظات الأُم هذه حتى تمرّدا نهدي الفتاة واتخذ جسدها يُنْفِرْ بتفاصيله لينشئ جسد امرأة بكل وضوح. وكان على الأُم أن تجد الثوب الذي يخفي إعلان نضوجها. حينها حصّلت من فاعلات الخير على عباءة وشال وثوب نسائي، مما جعل الفتاة تكتسب قدراً من الحشمة كونها ما عادت صالحة للمداعبات التي تتلقاها من الذكور الذين هم كبروا أيضاً. وانصرف الكثير منهم إلى شوارع المدينة. رأت أُم سْعيدة : من الحكمة أن لا ترافقها الفتاة في طلعاتها. فعمرها يمضي إلى مرحلة لا يجيز لها أن تتنقل بين البيوت. ولهذا أصبحت سِعْدة قعيدة البيت. وهي في مضيها إلى تخطي مراحل النضوج. أقرت إجراء والدتها. فهي حتى هذه السنة توشك أن تضع قدميها على أعتاب الثامنة عشر. وبدأت تهتم ببعض أمور رتق الملابس وبعض القضايا التي تقتل به نهارها الذي يلوح لها طويلاً ما يقتضي ملأ فراغها الكبير. لكن ـ كما تعتقد فدعة : كل شدّة ولها فرج ـ وهكذا اقتربت ساعة الفرج بسماع فدعه : إن خطيباً سيتقدم إلى البنت ولم يغمض جفـن ( فدعه) غالبية الليالي.فظلت تنتظر بفارغ الصبر مجيء هذا الخطيب. أما من هو؟ فكأنها لا تملك الجرأة والثقة بتصديق ما سمعت. إنه خبر كالحلم. بل أغرب من الحلم. وتكاد أن تعتبره مجرد نكتة، ولهذا باشرت الأم بإبداء الاهتمام غير الاعتيادي بمظهر سِعْدة ونظافة جسدها. والبحث عما تستطيع أن توفر لها من ملابس تُظْهر حسن طلعتها.وتُبدي لفت نظر الفتاة إلى أن تتفقد ما يحيط بالكوخ جراء تجمع الأوساخ والأتربة فأبدت الفتاة اهتمامها. وفعلاً لاحت على ما يحيط بكوخهما ثمة نظافة. وجلب الماء من النهر لرش الفناء المحيط بالكوخ والذي أُحيط بحصائر القصب، فتوفر ٍللإثنين أرضا صلبة يمكنهما وضع فراش للجلوس ليلاً، وتوفر مكان للجلوس لاستقبال الزائرات أثناء الليالي الصيفية، والشروع بتداول الأحاديث. لكـن الأيام التي تتوالى بدأت تخدش قناعة (فدعه) بكون ما طرق سمعها عن جدية خطوبة البنت صار ليس إلاّ مجرد حكاية عابرة. فقد ظل الوقت يمضي والحكاية تكاد أن تتحوّل إلى خبر يطويه النسيان. غير أن الحال سرعان ما تغير وفوجئت الأُم بعجالة الخبر، على أن تهيأ الفتاة لإكمال العقد الشرعي ومن ثم الزفاف. واتسمت الخطوبة وزواجها بأسرع مما يتوقع، وتحولت سعْدة من المدينة إلى الريف ترافقها أُمها، ريثما تعتاد ثم تقفل الأم عائدة إلى كوخها. ظلت سعده قبل زفافها،طيلة ليلها تبكي. دون أن تحسس أحداً بذلك. ولم تمكث الأم كثيراً، فقد اطمأنت على أن البنت ستتطبع وستجد ما يغريها في الريف. بيد أن الأم ما كان هيناً عليها أن تظل وحيدة وبنتها في مكان قصي. * * * حين تزوجت ( سِعْده ) من خلف، كانت تلوح للناظر ذات ملامـح بائسة، لا تبدوجديرة بزوجها، ولا يبان عليها ما هومغر. وفي رحيلها إلى القرية، توافدت عليها العديد من القـرويات الفـلاحات. كانت فرحة، وفرحها مشوباً بالخجل. مع ذلك ظلت تجزل على زائراتها اللواتي جئن للتعرف ومشاهدة زوج عبد الشيخ بابتسامة عريضة، كونها مذهولة من هذا الاهتمام الذي لم تألفه. ومن تشاهدها لأول مرة وتتبحر جيداً لشاهدت تلك السجايا التي لم تألفها أية قروية لدى خدم الشيخ. في مجرى حياتها مع خلف،لاحت عليها ملامح استجابتها السريعة لما توفر لها من طعام. فنمت عافيتها سريعاً وامتلأت، ولمعت بملامح ذات شفتين مكتنزتين. لكن العافية بمرور الأيام جعلتهما يكتسبان لونا باذنجانيا. ولم يكن الخاسر في التحول الحاصل سوى الأنف، الذي تضايق متقهقرا إلى الخلف، منبطحا من أرنبيه. فبدا لمن يريد أن يتحرّى عـن ملامح محببة، ثمة مـا يـوحي بطيف انطباع يقرّبها إلى النفس. والناس آنذاك ميّالون إلى المداعبة لقضاء وقت يزيحون به همومهم التي لا يمكن تلافيها إلا بالمداعبة، وقد تكون عنيفة ومسببة للآلام. وكانت سعدة مؤنسة، حتى أن الفلاّحين يميلون لمداعبتها، حين يصادف أن يلتقون معها. بالتأكيد إن مثل هذه المداعبات لم تكن جارحة، بل هناك حيّزا من التحفظ، وتنقية الكلمات من الشوائب للحفاظ على الاحترام لوصيفة شيخ عشيرتهم، الذي اقتضت التقاليد السائدة أن يسمى من قبل عبيده بالعم. أهم ما تفتخر به في المدينة، تلك الأضواء الساطعة والتي تبعث بشعاعها المتألق في فضاء المدينة. في حين يغط كوخهم بظلام لا يبدده سوى الفانوس النفطي. وما ينعكس من ضوء أعمدة الكهرباء البعيدة عبر شقوق جـدران كوخهم المتهالك والذي لا يحميهم من البرد ومياه الأمطار شتاءاً، ومن هجير الصيف. مع ذلك لديها تلك المعلومات التي التقطتها مما يصنعن نسوة المدينة.بل طالما تستدعى في الدار لكي تتكلم لهم عن حياة المدينة وتقص لهم ما يرضي شغفهم.
* * * في الأيام التي تلت زواج سعده : التزم الأمر..أن تتكيف مع الحياة الجديدة. كان ذلك عسيرا،جراء فراق أمها. فالليل وصيلها المتخفي الذي يجزل عليها بالأحلام والبكاء. فهي تراها على مسافة قصيرة منها. أحياناً تحدثها، وأحياناً تشاهدها مقرفصة ذليلة وتبكي. فتقول لها سِعْدة : ـ من أبكاك يا والده؟ فتجيب: ـ ما عندي حيل للفراق. بانت خلتي من بعد زواجك يا سعده. البيت وحش يَا سِِعْده. وتظل سعده تذرف دموعها بصمت. ولكون ما صادفته نمطا من الحياة الغريبة. لم تألفها بل كانت تسمع من بعيد عن بيت الشيخ الذي تسكنه سبع من الزوجات، وجواره عنابر القمح والشعير والرز.ومراح الماشية ومربط الخيول، وأغلب الأحيان يستضيف الشيخ من وجهاء الريف، فيأتي (خلف) بسهم سعده من زاد المضيف. كل الأشياء التي أعوزتها في أيامها المدقعة تلك، وجدتها هنا سهلة المنال. الخبز والرز واللحم والـلَّبن، وحتى الملابس، التي لم تألف الرقع، ما توسمت فيه ثيابها على مدى طفولتها ونضوجها. أشياء وافرة، أشياء تستدعيها أن يغمرها الفرح، لكون منالها هنا سهلا، كلما صادف أن تحصل على شيْ، فانه يثير دهشتها. إنها تشبع دون عناء. دون صعوبة: صحيح هي لم تألف هذا دفعة واحدة، بل اقتضى منها أن تتكيف بعد عسر التكيف. لكنها لم تخلص من حسراتها على حياة أمها. فتقول: ـ عميه عيني يا والده. أين كان هذا الربيع ؟ لماذا اختفى كل هذي السنين عنها وعن والديـها ؟ لماذا بَعُدَ عنها كل هذه المسافات ؟ ولماذا نأى عنها خارج المدينة، وفي هذه الديار ؟ من الذي صنع كل هذا ؟ : عمها (حرب) شيخ العشيرة،راعي كرامتها وعزّتها بنفسها، الذي تؤمن به إلى حد العبادة.وتؤمن ببخته. فإنها تفتخر به حالها حال أفراد بيته. وتزداد فخرا..وهي تدور وسط الدار، حتى لواستدعى نهارها كلـه. سعْده بدأت تتواءم مع الحياة الجديدة، وتضاءلت وحشتها جراء فراق أُمها. وبدأت تتكلم بالطريقة التي يتكلم بها خلف، فعندما تذكر الفلاحين، فأنها تقول (فلاحيّنا) وعندما تتكلم عن أراضي عمّها، تقول أراضينا. فهي إذن تختلف عن الفلاحات اللواتي هن أقل شأنا من بنات الدار. وسعْده من بنات الدار.وهي تريد أن يحس الجميع من قاطني القرية باحترامها. إذ ما الفـرق بينها وبين زوجها ؟ هوأسود وهي سوداء. لكن هي في الحقيقة قلبها رقيق لا تستطيع أن تنهر فلاحا وفلاحة. وفي تعليلها للسبب..توصلت إلى نتيجة، بكونها بنت مدينة. وبنات المدينة لا يروق لهن إلا أن يبتسمن ويدعين الآخرين لذلك.وهي أيضا تدرك : ولوأنها من عبيد الله.لكن هي لا تنكرأنها من بنات العبيد الطيبين. هي هبّة ريح وكريمة نفس. ولا تعرف لماذا شذ خلف عن هذه القاعدة ؟ مع ذلك فإن عزة النفس مهمة. والكرامة مهمة. فـإن توفرت الهيبة لعبيد عمّها زادت مهابة العم. لأنه ـ حسب ما يقال: إذا أُهين عبد العم فأن أمثال الشيخ، يعلنون القتال من اجل ذلك. وأسعد يوم من أيامها لواكتحلت عينها برؤيته. وهويتنقل عند أطراف الليل ومسدسه يتأرجح في حزامه.. حينما يخطوبقدميه أمام حجرتها. ويغادر من الباب الخلفي، ربما إلى فناء القرية ويتفقدها بسبب غياب رجالها. وعززت لديها الأيام، إيمانا بكونه من المقربين إلى ربه. وان الملائكة تحرسه من عيون الحساد.. وقبل ركونها إلى النوم، بعد يوم مجهد، وبعد أن تختم صلاتها بالسلام على الأولياء، ثم تقـرأ سورة الكرسي بطريقتها الخاصة ثلاث مرات. ثم تتدثر بغطائها وهي تقول. (مساء العافية على والدتي وعلى خلف ). ويغط غطيطها. تلك الليلة كانت نظيفة، متعوذة من الشيطان. فأرخت جسدها المتعب وغفت.. وتراءى لها عمها الشيخ حرب جالسا على كرسي في حديقة ( مثل حديقة المدينة ) تحفه الملائكة الصالحون، ثم تقدم أحد الأولياء، رافعا عِِمّته، واضعا إياها فوق رأسه. فغمره الجلال من كل جانب ومكان. وجـاء صبيّان صالحان وسكبا ماء الوردعلى رأسه، من إبريقين جميلين، فاستضاء وجهه بنور ساطع لم تألفه. فقالت سعدة: ـ اللهم صلي على محمد وآل محمد......اللهم صلي على محمد وآل محمد. هزت زوجها النائـم بجانبها بيديـها، وصوتها يرتعد من فرط الانفعال وروت له حلمها. وتمنى خلف. لوانه استطاع.. أن يروي الحلم الجميل..لكن يا ليته يتجرّأ. وتمنت سعده.. لوتقعد مع عمها، ( ركبة ونصف ) وتحكي له حلمها.لكن..هل هي قادرة على فعل ذلك ؟ فما أن تشاهده حتى ترتبك قدماها وتفقد توازنها،وتزداد الوطأة عندما يرقبها بعينيه. ذات يوم، وهي مستلقية على فراشها، طرأت لها فكرة، ارتعدت لها فرائصها. لم يسبق أن داهمت خيالها من قبل. وتوصلت إلى استنتاج مفاده : ربما هناك من الفاهمين الذين يقرؤون ويكتبون، يدركون ما لم يدركه أبناء هذه الديار. وهي أيضا لا تحبذ أن تبدوأقل شأنا من أُمهات الدار، وأقرباء عمها. مما يعني أنها أقل جدارة مـن غيرها، لكي تحظى بمعرفة خفاياه. وتعوذت من الشيطان مرة وثانية وثالثة، وقرأت ( كف يا عين صاد. من عين الرايح والراد ). وآية الكرسي. كل هذا لكي تفهم ما يجب فهمه، من خصوصيات عمها الشيخ. فهي مخصوصتة وزوجة مخصوصه. وأكثر حظوة من غيرها بمعرفة ذلك السر. كونه عمها ولها حق عليه، مثلما له حق عليها.إي..نعم. كان عليها أن تسرق سره من زوجها، إنها لا تدري كيف تبدأ السؤال : ـ خلف..بروح امّك..غايط عمي حرب مثل غايطنا ؟ لا....لا....هذا السؤال قد يغضب زوجها.. ويجعلها قليلة الشأن لدى زوجها لجهل مكانة ونقاء عمه ومنزلته لدى ربه. والأنسب أن تجد سؤالا مناسبا : ـ خلف...بروح والدك العزيز...طلوع بطن عمي الشيخ حرب مثل.. لا.. يجوز يزعل : ـ خلف بلا زعل......اعتبرني...مثل سؤال( فطيرة )..... استغفرت ربها...فهل هذا الذي يتعمم بعمة الأولياء يستطيع احد أن يشك بكون أحشائه أطهر من الجوهر؟ وبعد أيام صبرت على مرورها دون أن تفعل شيئاً من نيّتها التي تلكأت عن تنفيذها، وإحجامها عن أي قرار خيّم عليها كل ذلك بالدوار، وقلق الذهن، وهذا ما شغل بال خلف مما يريبه من هذا الذي يشغل بال سعده.... فراجت في بالها فكرة حكيمة دون أن تطلب من أجلها مساعدة أحد : هي أن تتوصل إلى اكتشاف هذا الأمر بصمت وهدوء، وتفهم إن كانت حاجته(11) التي يقضيها كما يفعل الباقون، هي من من الشياء الطاهرة. فدأبت أن تختلي، وتترصد متخفّية طمعا منها أن يطلب إبريقاً(12)من خلف لقضاء حاجته، كي تتعقبه وتشاهد بنفسها، أن كان غائطه مثل ما يحدث لدى البشر وغـير ذلك؟ كان الشيخ حرب يلاحظ اهتمامها بأمره لكنه... لم يتضح له الأمر لكون جميع القرويات.. يسعدهن رؤيته صباحا ومساء، ويخيفهن أحياناً. وبعضهن لا يسلمن من خيزرانه لأسباب مبررة ولا مبررة. وربما ينسب هذه المراقبة للأسباب تتعلق برغبتها فيه. * * * كان الوسيلة الفظة التي يتبعها الشيخ في الغالب تنصب على الفلاحين وعائلاتهم. وعلى الشيوخ الذين هم ضعيفي الحال والمكانة. والذين لا يحبذون إثارة المشاكل. وهذه السلوكية الفظة كانت تنعكس إلى حد ما على عائلته وأولاده. بل أحياناً لا يرعاهم الرعاية التي تؤهلهم إلى حياة تجعلهم قادرين على حسن التصرف في أجواء المدينة. انه فقط يهتم إلى أقصى حـد بنفسه ورغباته فتتسم العلاقة بينهم وبين والدهم بالتهيب والاضطراب عند استدعائهم. وحتى شمران. كذلك تلاحظ زوجاته يعتمدن على أنفسهن بتربية بعض الأبقار والماعز والديك الرومي والدجاج وحتى البط والوز والاستفادة من مردود ذلك ما يحصلن عليه من ثمن، عند تكليف إحدى الفلاّحات ببيعه في سوق المدينة. وتنعكس هذه العلاقات التي يتبعها الشيخ حرب على نفسيته. سيّما تلك القسوة المتناهية المهينة، الدامية أحياناً ضد فلاحيه. والنَيْل من كرامتهم. ولم تسلم زوجه الكبيرة( شهد) التي تزوجها قبل بلوغه سن الرشد. ربما لم يتجاوز سنه آنذاك العاشرة. وكانت له بمثابة المربية للفارق الزمني بينهما بالعمر. وقد عُرفت برجاحة عقلها وحنانها عندما فقد والديه وهولما يزل صبياً بحاجة على زوجة محنكة بالتجربة. فكانت هي التي تدير البيت وتعتني بمظهرهما وتعلمهما على حسن التصرف في محافل الشيوخ والدواوين. فهي امرأة تنحدر من نسل ينتسب لأحد كبار قومه. ذلك أن والدهما ـ وهوصديق لوالدها ـ رحل في غير أوانه لا حقاً بأُمهما، جرّاء معركة دارت بـين عشيرتهما وعشيرة مناوئة. وعند إصابته إصابة بالغة حمله أحد الفلاحين على ظهره والرجال الأعداء يطاردونه يهتفون به : ـ اتْرِكْهُ.. اتِْركْهُ.. لكن الرجل رغم إصاباته الموجعة التي تلقاها لم يذعن لهم فسلك الأخاديد والسواقي العميقة تحت غطاء من الرمي الكثيف لأفراد عشيرته. فالزوجة الكبيرة لم توقف رعايتها لشِمْران، حاله حال ولدها. بل كان مدللها الذي لا يجارى. ويحدث هذا له مع أخيه لأتفه خطأ يرتكبه فيلجأ إليها وتلقي بجسدها فوقه لكي لا يتعرض لأقل أذى. حتى لوأمعن الشيخ حرب وعرّضها لقسوة الضرب الموجع الذي تناله دون مبرر يستدعي ذلك. فينخرط شِمْران بالبكاء وهويراقب الخيزران تهبط بعنف على جسدها.. بل أحياناً : ما أن تسمع ( شهد) بـزوجها ( حرب) يحاول ضرب أخيه، فإنها سرعان ما تهرع إليه وتخفيه في مكان ما. وليته ضربه، لكان ذلك أهون بكثير من تهديده بالضرب. فقـد ترك هذا التعامل المزدوج معه بين حنان زوج أخيه وقسوة حرب، أثره المؤثر في حياته اللاحقة. هذه الحالة طالما تتراءى له قسوتها. وتصيبه بكوابيس في منامه. فهي تتحمل كل عنف بصمت، وهي مواظبة على متابعة أُمور البيت. لذا هي تحظى بصلاحيات تبيح لها أن تهيمن على نسائه الأخريات. عـدا (صفيه)الحضرية التي أفرد لها بيتاً يسمى( القصر) ملاصقـاً لدار العيال.. ما عداها تخضع إلى سطوة الزوجة الكبيرة. وهي سطوة لا تتسم بالعنف بل باللوم الشديد إن اقتضى الأمر والتوجيه والنصيحة. وأمر الخشية والهيمنة، أمر لا يمكن التساهل به. فالجميع يجب أن يكونوا خاضعين مطيعين. فقط واحدة من زوجاته اسمها ( صبريه)، تتعمد أن تكون ذات قدرة على تحمل عنفه ومواجهته. وتقول له ما يدور بخلدها دون خشية حتى لواقتضى ذلك إلى ضرب مبرّح دامٍٍ. حتى لوكان ذلك يؤشر من طرف خفي إلى فضح سلوكه الذي هي على دراية به. وهويدرك ما ترمز إليه، فينهال عليها ضرباً بكل ما أُوتي من قوّة وغضب. وكانت نسوته حينذاك يختفين في غرفهن في حالة من الهلع والخوف. وكان شِمْران يضايقه ما يحدث في البيت ويدعوه إلى الحزن العميق الذي طالما يتعرض أحيانا إلى عراك. لذلك حتى لوأن الشيخ ( حرب ) قد دخل فجأة إلى الدار فإن دخوله المفاجئ يستلب اللب، ويُرسّخ باستمرار فـي ذهنية شِمْران : إن قدرة أخيه التي يمتلكها معه، إنما هي ظاهرة تشـمل تهيبه في الكلام والسطوة أمام الرجال دون النساء. ففي ذهنه أنه يتجرأ للكلام أمام أية امرأة دون حرج لكنه لا يحسن هذا الأمر أمام الرجال وبالأخص أقران أخيه. ويتلعثم أمامهم مما يُعرّضه إلى التوبيخ والعقاب من حرب. وفي تعامل شِمْران مع الآخرين، فإنه يحاول أن يقتدي بما يفعله (حرب) من فرض ظاهرة القوة ضد الفلاحين ومضايقتهم، وحرمان ماشيتهم بالاقتراب من الزرع، وعند الحاجة لعقاب أحد فإنه يعاقب دون الحاجة إلى النطق بكلمة. بيد أن مثل هذا الأمر، في آخر المطاف، يوجع ضمير شمران ويجعله نادماً على ما يفعل إن قسا على أحد. إنه دائما ما يرى نفسه بين نقيضين. بين ان يبرر قسوته لأسباب تستوجبها زعامة العشرة عند غياب أخيه وبين أن يدينها لأنه أساسا ً يستهجن القسوة. وفي البداية واجهت شمران مواقف عسيرة. فبدل حالة الاضطهاد والسطوة المفروضة عليه من قبل أخيه يُقحم بواجب إشغال موقعه في الديوان دون مقدمات. دون إعطائه الحق أن يتبادل معه ولوكلمة،ولورأياً واحداً، يعزز إقدامه على لعب دور أخيه. وعليه أن يؤدي دوره بنفس القدرة والعنف. غير أن ذلك يصعب عليه بممارسة الكلام والتوجيه وحسم موقف ما، حيث يشترط أن يتواجد في المضيف لكي يتدرب على أن يحل محل أخيه عند غيابه، فإنه يميل للصمت ولا يشترك بحديث أكثر من هز رأسه وقول كلمة نعم أولا. أبان طفولتـه. كان يحاول أن يتزعم الأطفال وأحيـاناً يقسوا على البعض لأتفـه الأسباب. غـير أن معنوياتـه تهبط أمام أحـد أبنـاء الفلاحين. ذلـك الطفـل المشاكس، المهيمن على الجميع، والذي يقودهم في مواجهات بالحجارة ضد أبناء القرى المجاورة والقـرى الأخرى. وكان يبدوعلى وجه ذلك الطفل آثار العنف من خدوش وجروح واضحة. ولطالما يعترض الأطفال القرويين من غير قريته عند توجههم إلى المدينة سائرين مع جرف النهر عبر الطريق الذي لا بد أن يمر بمحاذاة قريتهم. وربما يوعز فشل شـمران، أيضاً في تمكنه من الكلام وتوجيـه أبناء القرية، لكونه يُتأتيءْ في كلامه. فتدعوه هذه الحالة أحياناً إلى الإنفراد، لكون أطفال القرية يهزؤون به فيقلدونه في عسر نطقه، ولـهذا يضـطر أن يقسوا مع بعضهم. ثم يعود إلى الدار لينزوي ويبكي. ورغم أنه ظل يحاول باستمرار أن يتلافى ظاهرة التـأتـأة لكنه بقي \في بعض الأحيان يتعثر بوضوح في كلماته حينما يكون منفعلاً. وما عدا ذلك.. فهويتمتع بمؤهلات منها ما يلوح على محياه من نضارة ومن بهاء طلعته وحسن ردائه. وفي تقدم الأعوام ظل يعاني اضطراباً في حياته العاطفية. إذ طالما صادفته مناسبات محرجة. لكنه يفشل في حلًها لصالحه. وفي الغالب : كان يود أن تكون مثل هكذا علاقات، ينبغي أن تتسم بالبراءة، وتحلي الفتاة التي تقدم نفسها إليه بالحياء والطيبة والبراءة، واقتصار علاقتها عليه دون سواه. وربما يلوح ذلك كما لوأنه لم يكن موقفاً جاداً من قبله. إنما كان جراء الخجل المتطرف.إنه يتمزق من هذا الموقف المضطرب. يعاني من المراجعات المستمرة من فعل يقوم به ُثم يظل يؤنبه ضميره على ما قام به. وقد تكون هذه الحالة نشأت لديه جرّاء ممارسات أخيه غير الحميدة، حيث رصده في سوء تصرف مع فتاة ريفية، كـان شمران يميل في عواطفه نحـوها. وتمعن في ابتذال سلوكه معها. فظل يعتقد : إن هذه الظاهرة التي صادفها، هي سلوكيه متّبعة لدى أخيه. وقد شان عليه أن يشاهد ما يفعله ذلك الأخ الذي يقدسه ويتمنى أن يتبع خطاه وسلوكه. ولم يفه لأحد بما شاهد. غير أنـه لا يعلم إن كان ما يمارسه أخوه معروفا في القرية كما عليه الحال في دار العائـلة. فما شاهد، كان محض صدفة، وقد تقزز مما رآه. وبقي يلازَمَهُ إحساسٌ بضآلة النقاء في العلاقات التي يشاهدها مع النساء. لذا تعمّق لديه شعور بعدم جدارة أية فتاة بحبه من فتيات القرية. ولم تؤثر هـذه الانطباعات على عنايته بنفسه.. إنما ظل يبذل أقصى ما يستطيع لكي يكون بهياً أنيقاً. رشيقاً جميل الابتسامة. أقرب إلى أبناء المدينة من حيث الترف والاهتمام بمظهره. وربما كان هذا الموقف يغسل دواخله من الاضطرابات التي تتصارع في داخله. * * * في أيام طفولة شمران وعلى جانب مضيف الشيخ حرب، والتي تحيط بها بيوت القرية. ويحاذي المربط المهيأ لخيل الضيوف الجهة اليمنى من المضيف حيث تمتد الربعة مترامية،هناك يلهوالصبية ‘ في الليالي المقمرة. وعند خلوالمضيف من جلسات تناول القهوة، ووجود ضيوف. * * * في كل مناسبة سعيدة. مثل أعياد ( نوروز) (13) وحينما يحل المساء، تكون القري قد تهيّأت لاستقبال هذه المناسبة الربيعية. فيُعلّق قطاف من الزرع في سقوف الأكواخ بين حنايا القصب، ليبقى عبر مدار السنة. وتشارك القرى والمدن بشراء الحِنّاء المطحون، مُدافاً بمسحوق حبيبات (المَحَلَبْ والقرنفل)(14) لإعطاء رائحة زكية، حيث يُضمّخ به شعر الرأس للنسوة والفتيات. ويشارك الشباب مع النسا ء والأطفال، كل بالطريقة المناسبة لوضع كمية من الحنّاء المخمّر وإطباق الكفين وشدّه حتى الصباح، ليترك جمال صبغته الحمراء الغامقة التي تميل بلونها إلى البني،كما تُضَمِّخْ النسوة والفتيات أقدامهن أيضا بعد جليهن من الأوساخ. ويتجمع الفتية والفتيات ويذهبون ومعهم الدفوف والطبول والمزامير والذين يحسنون الغناء لزيارة ضريح أحد العلويين وهناك تتم ممارسة مراسيم الزيارة وهم يرفلون بأحسن ما يملكون من ملابس. جالبين معهم البيض الذي يسلقونه بقشره مع سرجين البقر و( النشره )(15)، ويتنافسون بضرب بيضة بأخرى : فالذي يكسر بيضة منافٍسِهِ يأخذها له.ويتسابقون جرياً وألعاب أُخرى. أشياء كثيرة من هذا القبيل وغيره يمارسونه في مثل هذه المناسبة. كالأعراس التي تتوالى بالأخص للشيخ ( حرب ) تجري مباراة سباق الخيل. في مفازة شاسعة لم تستغل للزراعة. عند ما ترعرع وصار شمران شاباً قادراً على اعتلاء ظهور الخيل مُنح ( كحيلان) من أجود الخيول. وهومن الأصول المعروفة. والتي يهتم حافظي أٌصول الخيول الأصيلة. فيمكنهم أن يعِدَّوا أسماء أجداد الحصان وانحداره. ومتابعة ما ينحدر من سلالات هذه الخيول. والاحتفاظ بأسماء مالكيها، وماذا خلفت. ولمن بيعت وفي أية قرية نائية تتواجد؟ لا يغادر ذهن شمران مرحلة طفولته. فهويحتفظ بما يحدث، وله علاقة بحياته. إن كان مسرّاً ومحزناً.وكذلك في علاقته مع أقرانه في اللعب. ففي تلك الربعة دأب الأطفال أن يتبارون في الليالي على عيدان القصـب التي يشرعون بوضعها بين سيقانهم، ويمسكون بها ويقلدون صهيل الخيول ويتسابقون ليتضح من هوالذي يسبق.. كان شمران يتحمّس لأقصى حد أن يفوز عليهم. إنه لا يود أن لا يكون إلاّ في المقدمة. أحياناً عندما يخفق في تخطيهم، ينصرف إلى الدار وينزوي ليبكي.إنه يحس بشيء غامض يجعله يشعر : إن هناك ضرورة لكي يكون في مقدمة الفائزين. وحين نشأ وأصبح قادراً على الاشتراك في سباق الخيل – مع خيرة الفرسان المتمرسين – فإنه ينحني وهوغائراً ليهمس بإذن ( كحيلان )أن لا يخذله.. لذا يضع خيزرانه على ناصية حصانه، فيهتف به بذلك الصوت المتعارف عليه لكي يكون في الأمام، ويخلّف الخيول الأصيلة وراءه في طراده، على بعد شاسع، ويمضي طاوياً الأرض تحت قوائمه كأنه إعصار. إن حصانه.. ربما يوحي لشمران : بأن فارسه هوالمقتدر، ويمكنه أن يطمئن إلى قدرة جواده الأصيل على اختطاف النصر، وأن باستطاعة شمران أن يمرر خيزرانه من فوق أكتاف من يتخطاهم حتى يلحق بالفارس المتقدم على الجميع.. طالما ظل شمران ممسكاً بعنان حصانه رابتاً على جسده وناصيته وماسحاً عًرقه ثم يُقبّله بين عينيه، وسط تلك النفحة المحببة من جواده وتشممه المترع بمشاعر التآلف بينهما. طالما هبط به إلى مجرى النهر ليغتسلا معاً. وليمسح بيده كل مكان من جسده وقلبه ينبض حباً له.وطالما انحنى ( كحيلان) وتشمم وجه شمران ورقبته. وطالما أسرف – ويا لها من عادة - في أن يشمّ جبهته وعنقه ثم عينيه. كان هذا يعمق علاقتهما. حتى كأنه يتمنى لوكان على مقدرة أن يفهم ما يدور في خلد شمران... لكن.. هناك لغة لا ريب في وضوحها بينهما، ذلك الصهيل الفحولي للجواد وذلك العشق المتناهي لما يرتبط به شمران معه. * * * إن هناك..شيء ما. سرّاً في أعماق كحيلان، لا يدركه ولا يتنبأ به سواه ولا شمران. نبوءة مجهولة في قلب ( كحيلان ) مثل تنبؤ بعض الكائنات عن قدوم إعصار مدمر.. هذا السر : تستقرئه تلك الحميمية التي تربط كحيلان مع ناصية شمران. كأن هناك عالما قائما يستدعيه أن يتحرى عنه.ُ ثم تهبط أنفاسه بكل رفق بين عيني راعيه. ثم تأتي القبلة التي هي علامة استفهام يرسلها شمران لجواده الأصيل. ورغم قسوة شمران النسبية مع الفلاحين، فقد احتل موقعاً في قلوبهم. كونهم يعتقدون : بأن العادة المتبعة التي يمارسها الشيوخ ضد فلاحيهم،هي حالة مألوفة في كل القرى، وإن كانت تتفاوت في مدى عنفها. هوليس عنيفا ً باستمرار. لكن يصادف أن يعثـر على متجاوز، مثل توغل بقرة وعدة أبقار، وماشية في الحقل. فيطلق النار على الحيوانات. وأحياناً تكون الطلقة قاتلة وجارحة.ويضرب بخيزرانه ظهر صبي وصبية. وقـد يصادف فلاحة وهي تحمل على ظهرها حملاً من الحشيش. فيدعوها أن تطرح حملها أرضاً ويدعوها أن تبعثره فيعثر على ما تخبئه من طعام القمح والشعير.. فيقسوا عليها بضربات موجعة تؤدي إلى أن تذرف دموعها وهي تبتسم. آنذّاك يسمح لها بإخفاء ما سرقت سريعاً ويصرفها مع ابتسامة منه لكي يخفف من وطأة قسوته عليها. أغلب الأحيان.. عند ما لا تكون هناك واجبات حقلية، فإنه يستأذن أخاه وينطلق إلى المدينة برفقة أصدقائه، من أبناء الفلاحين الموسرين والذين يرتدون أزياءً لا تقترب من أناقته. فهم لا يحبذون أن تتضاءل ميزة مظهره بينهم. لكنهم لا يخفون وسامتهم. وأحياناً يخرجون لصيد الطيور. في الحقول بالأخص أثناء غمر الأراضي بالمياه بعد إنهاء رفع الحاصل وحمله على ظهر الإبل إلى القرية بـعد عملية التوزيع وفرز الحصص.وأثناء الخريف عند إلقاء البذور وتجمع أسراب القطا.
* * *
عندما يخرج الشيخ إلى الحقل ومعه شلة من رجاله وعبده فإن الخبـر سرعان ما ينتشر لدى الفلاحين والفلاحات وهم يعدّون أنفسهم لاستـقباله بين الفرح والخشية من احتمال إبداء ملاحظاته التي لا تخلومن كلام جارح واستخدام خيزرانه بالضرب على رأس وقفا أحدهم وعلى أكتاف إحداهن. وكانت مثل هذه الزيارات تحدث في أوقات متباعدة وغير متوقعة. فهوربما يغريه أن يقوم بطلعاته من اجل صيد القطا أثناء نثر البذور، ولرغبة اللهووقضاء بعض الوقت للترويح. والهزأ من أحد الفلاحين كأن يتهمه بجناية وسرقة بعض الحاصل نتيجة وشاية مختلقة.كما حدث مع( حَسّون) ورغم ما يحدثه مثل هذا الأمر من رعب للفـلاح إلاّ أن مثل هذه الممارسة طالما تجري لتقضية بعض الوقت. وكانت طلعاته في الغالب أبان اكتمال نموالزرع.حيث تلوح للناظر المساحات الشاسعة من الأراضي الزاهية الخضرة. فيؤنسه أن يمتطي حصانه الأصيل ( ريشان ) ليطرق دروب مقاطعاته. ويظل يكرر هذه ا لجولات حتى تبدأ السنابل بنشر نظارتها، فيغريه أن يتمعن بلونها الفضي والذهبي وتتسابق أحلامه إلى استقدام الأيام التي ترسوأمام عنابره العديد من المراكب التي ستحمل ما جناه من مردودات الموسم الزراعي هذه السنة. عندها يتهيأ إلى الشروع بالتهيئة لسفرات ميمونة يطرق بها المدن الأنيسة وربما يسافر إلى بلدان أخرى التي ستكون أحاديثه عنها جواده الأصيل الذي يمتطيه في أظهار تمتعه بما جنى من عوائد زراعته. هناك مجالس لنوع أحاديثه ولكل مجلس نوع من الحديث الذي ينغمر فيه معهم، لكن هذا الحديث له موقع آخر غير قريته. آنذاك ينشط رجاله في مراقبة الزرع مخافة تجاوز الماشية. ثم تتوالى زياراته إلى متابعة نضوج الحقل والاستعداد للقطاف. عندما تكتـمل إجراءات جمع الحاصل ونقله طعاماً إلى عنابره للخزن المحاذية إلى ضفاف النهر ريثما تقدم السفن والشاحنات النهرية لتحميل نتاج القمح والشعير إلى التجار في البصرة وأماكن أخرى لتسويقها إلى الخارج. تظل سعده تراقب الحمّالين وهم ينقلون الأكياس المعبأة وإلقاءها في الشاحنات. تتابع ذلك عبر نوافذ الغرف العلوية المطلة على النهر المترامي الضفاف. * * * تكاد سعده أن تتحمل ثقل الدار بكامله. سعده وَ صيفََة أريحية مـن العال. وهذا يزيدها فخرا واعتزازا به دون أن تشكومن إرهاق، ٍبل إن الإعياء يغمرها بالسرور والبهجة. رغم إن قلب سعده يحزنه بعدها لصعوبة حياة أمها لكن خلف... يقتطع لها القوت وستر الحال، من خير العم..كثر الله خيره، بما يناسب ما توفر لها من علاقة قربى مع عبد الشيخ بداية زواج سعده. تعززت علاقتها الخاطفة التي لم تحلم بسيرة طبيعتها ولم تألفها مع القرويات. كان ذلك يسعدها كثيراً. هي لم تحلم بحصولها على هذه المكانة من الاحترام والاهتمام. ولذا بدا هذا التطور في علاقتها مع القرويات يعزز لها جدارتها على كسب ود الجميع. وأغراها الأمر أن تنسى تبعيتها في تصرف لأولياء نعمتها. وجرياً على وكعادتها في المدينة، فإنها تبدي المساعدة سراً لمن هي بأمس الحاجة إليها. بل تجاوزت ذلك إلى مساعدة من تمـرض باستعمال وسائل المعالجة التي أطلعت عليها في المدينة. كذلك معالجة اللوزتين على طريقة أُمها التي أطٍلعتها على سر المهنة بالضغط على الاحتقان في اللوزتين لكي تنفجر ويتلاشى الورم. بل أحياناً تجلب الماء من النهر لمن تمرض. ومن هي عاجزة عن تدبير ذلك. وكان هذا مثار دهشة القرويات. لكن ما أن حظيت بها إحدى زوجات الشيخ وأفرطت بتقريعها، فإنها لم تلاق الأمر، إلاّ بابتسامة وتقبيل يد زوج الشيخ لتلافي فضحها. ولم تنقطع عن ذلك إذا ما سنحت لها الفرصة. إن تصنع ما يرضي مشاعرها، فتحس أنها قادرة على امتلاك القرار بهذا الشأن سرّاً وعلناً. الحمد لله... زاد الولائم التي يقيمها عمها للشيوخ الذين يستدعيهم إلى ضيافته تأكل به الكلاب >الله يزيد خيره. غير أن سعده بقيت تتحيّن الفرص المناسبة لتخفي تحت عبائتها إناءً مليئاً بالرز المداف بالمرق وترسله لإحدى الفلاحات الفقيرات. إنها أكثر الناس شعوراً بوجع الجوع. فهي تعتبر ذلك متجانساً لما كانت هي ووالدتها تحصل عليه من بيوت أهل الخير في المدينة. إنه وفاء لذلك النهج الذي عوملت عائلتها به من قبل العائلات الكريمة التي لم يقطع بها ووالدتها حينذاك. إنها طالما أدّت ذلك في المدينة لأُناس أثرياء ونساؤهم لا يحركن أقدامهن، إلاّ لواجبات ضئيلة إضافة لوجبات الغذاء والذي يسرفن في تحسين مـذاقه من بهارات وروائح تُطيّبْ من مذاقه. فتتذكر نصاعة أجسادهن وترافة أقدامهن الرافلتين بحجلي الذهب والمضمخان بالحنّاء، والأصابع المترفة المزدانة بالمحابس الذهبية والزندين والذراعين المزينة بالذهب من الأساور والأقراط والقلائـد الذهبية. وفي القرية شاهدت الفارق. الكبير بحياة المدينة والريف. صحيح أن الحياة في المدينة لا تخلومن فقراء كفقر حالة عائلتها. لكن ما اعتادت أن تلاحظه في الريف من فارق بين من يعيش في دار الشيخ وبين بيوت الفلاحين من حالة متباينة يستدعي منها أن تتأمّل بين الحالتين. إحداها أنها تدخل إلى الغرف العائدة لنساء الشيخ دون حاجة للانحناء وتلاحظ الغرفة زاخرة بالآثاث والحاجيات الثمينة من السجاد والبسط المُنَضّدة على محمل. والأواني وأشياء أُخرى، في حين، وعلى نطاق يكاد أن يكون عاماً : تحتار في محاولة اجتيازها باب كوخ الفلاحين إلى داخله، إلاّ إذا دخلت زحفاً. وعجبت كيف اعتادوا أن يدخلوا بسهولة بعد تقديم أحد ساقيهما وإطباق جذع الداخل على الساق المتقدم ولا تدري لماذا يتم إنشاء الأبواب على هذه الشاكلة. وحتى الفـلاحين هم أيضا يتفاوتون في ما يمتلكون ويأكلون ويلبسون فقد لاتشاهد في معظم الأكواخ التي تدخلها إلاّ أشياء تافهة قليلة من فراش مهلهل وغطاء بال، وأوان فخارية ومن الطين النيّء ليست ذات قيمة. ربما كانت محتويات كوخ أم سعدة في حالة أفضل. وقد تأتّى لسعده أن تعلّم زوجات الشيخ الريفيات الأصل على استخدام البهارات والمطيبات لتحسين مذاق الأدام الذي لم يحصلن على طريقة استعماله من الزوجة الحضرية. كذلك صناعة المتبلات، لوتواجدت المواد. ونسج الكفوف وطاقية الرأس للصغار والكبار. وأشياء بسيطة أُخرى. إذن هي لديها ما تمتلكه من معلومات يفتقرن لها نساء الدار. كان هذا يمر في فكرها وهي تجري بلا هوادة لتلبية نداءات زوجات عمها. وفاجأها صوت آمر. هرولت وابتسامة بيضاء تتألّق على وجهها السعدي.طافقة بتهيئة الأواني تلبية لطلب العمة الكبيرة. ألقت على عجل بالبسط والسجاد إلى الربعة، في حين شرع خلف بفرشها تشاركه عدة أيدي. أقدام تروح، وأقدام تجيء. وتقّّلت القهوة بالمقلاة ( مطقطقة ) بطرب، وقد ضوّعت الأنـوف برائحتها الزكية. ووضعت فـي الهاون.وراحت يدٌ تنقر: (دن..رن..دن..ترن..دن دن...ترن). * * * في مجرى الأيام بدأ (حرب) يتقرب إلى الشيخ بْريسَمْ، فما أن تحدث مناسبة إلاّ واستغلها لتمتين علاقتهما أملاً في تسوية الأسباب التي دعت علاقاتهما أن تسير نحوالتدهور. كانت سجايا الشيخ حرب معروفة،باختيار الوقت المناسب لتفجير خلافاته مع خصومه واستغلالها لأطماعه وتوسيع رقعة أراضيه بطرق الاحتيال والنصب غير المتوقعة. وكان يفتعل الخلافات طمعاً بمزارع الشيخ بْريسَمْ ذات الأراضي الخصبة،والذي عرف بأنه لم يرزق من الأولاد سوى الفتاة الجميلة التي أسماها ( كرهبايه). وقد أذهلت بجمالها الشيخ حرب في لقاء غير متوقع أبان ذهابه لتبادل التهاني بمناسبة أحد الأعياد. فتمنّاها زوجاً واستمات. عازماً على أن يحظى بها، وآنذاك سيمنحها مكانة متميزة بين زوجاته. ولم يكن بْريسَمْ ذوسيرة شبيهة بسيرة الشيخ حرب. شمران، قبل هذا يعرف...أن الخلافات كانت ضاربة أطنابها، وفي تصاعد لا يكاد أن يلتقط أنفاسه. والنزاعات على حدود أراضيهم بين أخيه والشيخ بْريسَمْ لم تطرح ركابها ٍ وقد تناسبت ـ عمداً ـ سفرة الشيخ حرب مع الشيخ بْريسَمٍ إلى بغداد لكي يلتقيا ويمضيا بعض الوقت معاً.. وقضيا ليال تعرف فيها الشيخ بريسم على العديد من الشيوخ في الفندق. العديد كما لاحظ بوضوح تلك الممارسات الماجنة التي يهتم بها الشيخ حرب. منها ارتياد الملاهي، حيث ترفّع الشيخ بْريسَمْ أن يسـف في أيّة علاقة مع الراقصات. وتناول المشروبات الكحولية. وحينما عادا إلى قريتيهما، بدأت تتسرب هـذه المعلومات الفاضحة إلى آذان الآخرين. فاستغلها الشيخ حرب، كونها تشهيرا بسمعته أشاعها الشيخ بْريسَمْ ليس غيره ولديه شهود على ذلك، حـوّلها إلى قضية عشائرية، يحق له أن يستغلّها لفرض شروط قاسية على غريمه الشيخ بْريسَمْ. وربما هوالذي بيّت لمثل هذا الأمر لخلق حجة يستطيع بموجبها أن يحق الشيخ بْريسَمْ بحقوق باهظة الثمن. وكانت العشائر عادة ما تتبع فترات حلول الظلام لرشق القرية المعادية بسيل من الطلقات النارية كتهديد، بغية رضوخ المقابل إلى التعويض عن الإساءة التي نالت من سمعة الآخر. وصار من الصعب على فلاحي بْريسَمْ الوصول إلى أراضيهم المتاخمة لأراضي الشيخ حرب، وإلاّ تعرضوا لإطلاق النار. وأمام ( الفِريضة ) الرجل الذي هوبمثابة المرجع لحل ما يعصي من مشاكل عشائرية، جرى التوصل إلى تحشيم الشيخ بْريسَمْ وإرغامه على تكبيده بإعطاء ابنته (كرهبايه) إلى الشيخ حرب. لم يرفض بريسم تحشيمه رفضاً قاطعاً، لكنه أصرّ إلى حـد الموت : أن تكون ابنته زوجا لشخص آخر غير خصمه وعمره ملائم لعمرها. وهي ليست بصاحبة ذنب لكي تتحمل أعباء ما حدث. ويبدوأن الفريضة وجد من اللياقة ومراعاة لبخته، أن لا يظلم الفتاة ويجعلها الزوجة الثامنة لحرب. ولحل الموضوع وافق الشيخ حرب على مضض بحل وسط : أن تكون البنـت، زوجـاً لشمران بدلاً عنه. فالمعروف : أن حكـم ( الفريضة ) الذي ارتضاه الطرفـان حكماً ملزماً لا يجوز مخالفته وإلاّ ترتبت حقوق في غير صالح الرافض. تتوسع العلاقات بين عشيرتي الشيخ (حرب) والشيخ ( بريسم) والتي بدأت تميل إلى رأب الصدع والقبول بتجاهل ما مضى من قبل الشيخ بريسم. فقد رأى أن من الحكمة أن يفكر ملياً بزحف الشيخ حرب على حياته الخاصة والتي بناها على أساس الابتعاد عن المنغصات والخصومات. ودخوله إلى عقر داره بقرار الفريضة، الذي لا يمتلك الرؤية في أبعاد طموحات الشيخ حرب. في حين كان يلتقيه على مضض ويؤدي الالتزامات العامة بالتعقل وغلق الأبواب التي تهب منها الرياح المؤذية. وحيث أنه متعلق بابنته، فهولا يريد أن تُنغَّصْ حياتها اللاحقة. سيدعوما فات يمضي ويتبنى الاهتمام بعلاقته التي يتوقع لها على يد زوجها أن تسعى نحومناخ ملائم لها. مع أنه في غاية الحذر من تبعات يخشاها ولم يسقطها من حساباته، متوقعة وغير متوقعة من الشيخ حرب. وكان ما جرى الاتفاق بشأنه يوماً سعيداً مفرحاً لشمران. الذي لا يحلم بمثل هـذه الفتاة. ولا بما يؤول لها من أملاك سترثها عن والدها. من أراضٍ مترامية الأطراف وغيرها. وقد تأتّى لخطيبها أن يراها، بعد عقد زواجه. تلك الشابة الهيفـاء الضامرة، الممتلئة رواءً. وكانت جديرة به، كما أنه لا يقل عنـها في فتوته ووسامته وأناقته لذا.. ما دامت الأمور قد سارت على هذا المنوال، فإن بريسم قد عَزّى نفسه بجدارة شمران لابنته، ولكونه لم ينغمر بحياة ماجنة. قد اطّلع الشيخ بريسم برؤيا العين على الشيخ حرب في سفره إلى بغداد وانغماره بما لا يلائم إنسانا صاحب مكانة لها وزنها بفعلته هناك. الآن وبعد مضي زمـنٌ أتيح إلى الشيخين أن يرأبا الصدع، ويتظاهرا بذلك، فبانت كأنها تتجلى ملتئمة مثل جراح مندملة،وامتدت أمام شمران ما لم يراوده في حلمه، على كف واسعة، إقطاعيات شاسعة، إضافية من وسط أراضي عمه بريسم وتمايلت السنابل الكهرمانية،مع الرياح تعلووتنخفض،كبحر من الموج الذهبي كأنها تقول : (أقطفوني). في حين كبرت الآمال مداعبة تطلعات الشيخ حرب أن يكون مصير هـذه الأراضي تزيد من امتداد أراضيه، التي ينبغي أن تكون في قبضته هو. إن طموحه في حقيقة الأمر، حتى لوأصبحت في حوزة شمـران فإنها ينبغي أن تتأهل للحاق بأراضيه ويجد الوسـيلة المناسبة للتعجيل بتحقيق هذا الحلم. وإنه أساساً لم يسعده تزويج ( كرهبايـه ) لشمران. بل كان زمام هذا الأمر بيد الفريضة فضلَّتَ زمام الأمور بما كان يُعَوِّلْ عليه. ومع هذا فهويعتبر أن طموحه قـد أصبح من كفيه قـاب قوسين وأدنـا. وسط هذه الحقول.. والتي تنبئ عن خير وفير. * * *
جرت قدما سعده، مثل القطـاة. من طرف الدار، إلى الطرف الآخر. ألف ألـف شغـل ينتظرها. وألف ألـف شغل لم تبدأه، من وراء التحضيرات لعرس شمران. ولوكانت واحدة غـيرها لكفرت بالحائط، وقـالت : ( تف على الحايط )(16)، طلعوا الدود الأخضر من عيني، قابل مثل قصة ( أبوالـﮜبان ) (17) يثقبون مؤخرته بعود شوك، ويفرونه ويرددون: ( شلون أُمك ترﮜص بالعيد.... شلون أُمك ترﮜص بالعيد ). ويروح يرف بجناحيه من وجع قلبه (مثل هذي الحياة..تف عليها ). أي.. نعم لكن سعده ـ مستدركة ـ ما هي من هذا الصنف،سعده أريحيّة.سعده ولو...سوداء...لكنها مثل مسبحة اليسُر،حجر كريم، لم تكن أبا القبان، مثقوب المؤخرة، لكن هي أبوالقبّان بطاعتها.ومن اجل عمها الشيخ حرب وأخيه شمران...فأنها لا تتحرج أن يكون حالها حال أبوالقبان. كيف تستطيع مثيلتها أن تكون وفية ؟ وكيف هي لا تستطيع ؟ كيف استطاع خلف أن يكون كما هوالآن؟ ألقت آخر سجادة من حضنها، وضعت يديها على خاصرتيها وقالت : ـ..............خ. ظهرك انفصم يا سعده... (شلون أمك ترﮜص بالعيد..شلون أمك ترﮜص بالعيد) , وأقول : ـ (أَهّا..وَ هّا..وَ هّا ). وراحت تفر بعجزها وتكركر: ـ لكن يكفل العباس.. لأعطيها حقها.أنا أختك يا خلف،مطلوب مني ارفع راسك،ويقولون..خير ما اخترت يا خلف،مثل هذي القطاية(81).. ما لها مثيل.عاش اختيارك خلف. ويوم الثاني يقولون : ـ هاي ألسمرة جوهرة. واقتنعت سعده : إن شمران عند قدوم زوجه سوف يجزل عليها العطاء،ويهديها مقابل تعبها هدايا ثمينة، ألم تكن أهلا لذلك ؟ نعم هي أهلاً. وحينذاك يقول : - ( إطلبي سعده ). وتقول سعده : ـ ( ترﮁية عبيد، وثوب ابـﮜـع ). (19) ويضحك.. ضحكته تساوي الدنيا. ثم تأخذ الثوب، وتثقبه من قفاها، كما فعلت أم خلف، بعرس الشيخ حرب،وترقص مثلما رقصا،وضربا قفا بقفا،وآنذاك أضحكا عمها الشيخ حرب من كل قلبه،وتفتقت بطون الآخرين. لكن سعده.. عندما أدركت : إنها يتعذر عليها أن تنجز ذلك،أبعدت الموضوع برمته لكي تنصرف إلى طرادها في فناء الدار، دون أن يتاح لها إن تهرش جلدة رأسها. وكان عليها أن تجفف إبطيها من عـرق ينضح، وتحسه يقطر باتجاه عارضتي أضلاعـها. فهناك أكثر من نداء من وسط البيت، كان عليها أن تنجز ما يطلب منها بسرعة، وهي تتدحرج مثل قرعة. بين قدمي الخدمة.واستدارت باتجاه صوت آمر: أسرعت مستعينة بتأرجح ردفيها، وفي صدرها ترديد لجملة احتفظت بالمدينة : ـ يس.. يم. يس.. يم.. يس..يم. * * * بقية الأيام، عدا أيام التهيؤ لزواج شمران، تقضي سعده معظم وقتها في خدمة( صفيّه) الحضرية، أيام مكوثها في القرية. وهي التي تأخذ الأواني التي تخصها وتجليها على جرف النهر. مما يذكرها بنسوة المدينة وأبيها. ثم تحوي الملابس وما يتسخ من فراش دارها.التي تحتاج إلى تنظيفها على جرف النهر.ثم تجلب ماء الشرب من النهر لملئ الحِبْ (20). والذي يوضع تحته ( الناقوط)(21) لكي يترشح الماء من قعر الحب ويسقط فيه صافياً..لأن الحضرية لا تشرب ماء النهر دون نقائه من الشوائب. كذلك تستخدمه لصنع الشاي. ما أن تنجز ذلك، حتى تبدأ بكنس الغرف والمرافق التابعة لها، وترتيب المحتويات حسب توجيه عمتها الحضرية. وأحياناً ترسل بيدها إناءً فيه طعام لإحدى معارفها من الفلاحات اللاتي تعودن أن يخدمنها. وبما أن سعده هي ابنة مدينة، وتداخلت حياتها في أوقات ليست بالقصيرة، في بيوت الأغنياء، وبين نسوتهم، اللواتي يرين الحياة على نحوأكثر بساطة. وأكثر إلفة، وأكثر مجاملة وتواضع. أما هذه المرأة فلا تدري سعده لِمَ تبدومختلفة عن تلك النسوة ؟ ولكي لا تظلمها ليس كلهن سواء، فلا توجد ( طرفة تخلومن ابن آوى). ذات يوم نادت عليها العمة ( صفيه) بصوت آمر ولكنه هادئ: ـ سعده.. أجابت سعده : ـ ها عمه.. أأمري عمه.. قالت صفيه الحضرية: ـ اصعدي حبّابه نظفي السطح. قالت سعده: ـ صار عمّه. وها هي سعده تصعد لتكنس، وتلقي نظرة على القرية الواطئة المنازل، وتبتعد بتطلعها إلى المسافات البعيدة. حيث الحقول الخضراء المترامية التي طالما شغلت بال أُمها. وها هي تعيش في هذه الدار وتشرف من هذا العلوعلى ثناياها. فيمتد نظرها إلى الجهة الثانية من النهر وتلوح لها القرى النائية والمزارع وغابات أشجار الغَرَبْ المتاخمة لجرف النهر. كان بصرها يستطلع مناطق محدودة في صغرها حينما تأتي والدتها وتحصل على المقسوم من الطعام الذي يقدمه لها الشيخ وبعض الفلاحين الموسرين. وتتطَبَّعْ سعده على شؤون الدار وعاداتها وأوامرها وتتعرف على خفاياها وعلى تسلط عمها.وأوامر العمة الكبيرة (شهد) وصلف (صبرية) إحدى زوجات العم التي يتحاشاها الجميع حتى الشيخ. في هذه الدار، التي ما كانت تحلم بها. إنه حلمٌ تصورته في البداية، يشبه ما تسمع وتحلم به في الحكايات التي روتها أُمها للصغار من أبناء تلك العائلات التي ترتاد بيوتهم. عن حياة مليئة بكل ما يحلم به البشر هناك في الريف. ذلك الذي أجمل ما فيه أيام بدء العمل الزراعي.ثم أيام الحصاد.حيث تنطلق الشابات من الفتيات والنسوة بأغانيهن الجماعية والرقص. وسعده شاهدت ما تحكيه أُمها عن الحصاد، ونقله إلى موضع الأكداس وجمع البيض التي تجده تحت أكداس الطعام، ثم إلى البيادر. ثم دياسته وتذريته. وتصفيته وتحويله إلى طعام خالٍ من الشوائب. آنئذٍ تجري قسمته بين الشيخ والفلاحين كل على حده. ومن ثم نقله إلى العنابر وتسويقه بالبواخر النهرية التي تمخر بها مياه النهر.إلى جهات غير معلومة. ثم تحكي لهم عن كرب الأرض وبذرها وتسويتها وسقيها، وآنذاك تتحوّل تلك الأرض الجرداء إلى أرض خضراء شاسعة.فينبت الخباز والنباتات ذات الروائح الزكية والرشاد البري. وبعد أن يزداد الرعد وينهمر المطر، يخرج الصغار والكبار للبحث عن الفطر وهناك أنواع الطيور والحيوانات البرية الجميلة والمخيفة كالأفاعي والعقارب وغيرها. فينطلق حديث فدعه المشوق إلى تلك المزارع، وتروح تتكلم بحماس وشوق عن تلك الحياة التي تعتقد أنها جميلة، وسط صمت الجميع وفتح أفواههم وتلهفهم لحديثها. وينتاب سعده شعور يجعلها تعتقد : إن اُمها قد أسرفت في وصفها للحياة في الريف بشكل أكثر أغراء. وها هي سعده تشاهد كل شيء من هذا العلو.هذا هومدى ما تستطيعه مما هومسموح لها به وفي الواقع تغتصبه. ولذا فقد ازدادت رغبة أن تنطلق مثل الأطفال وتنأى إلى مسافات قصية لترتاد كل هذه البقاع، بقعة بقعة. فتأوهت بحسرة. لكون سعده الآن، مهما امتلكت. ومهما اغتنت وشبعت، فهي لا تمتلك الحرية التي لديها في المدينة. ولا تلك التي لدى القرويات،أللواتي في مقدرتهن الخروج تحت أي ظرف ووقت وإلى أي بقعة نائية لجلب الأعلاف الخضراء والأشواك لاحتطابها وحوي الخباز والرشاد والحَنْدِقوق(22). أما هي فرهينة في هذه الدار. لا يحق لها أن تخطوخطوة خارج واجبها المحدد. ومسافات حركتها المسموح بها، من الأعياد وعيد نوروز. ولذلك تظل تنتظر المناسبات، كزيارة الأضرحة المقدسة القريبة من قراهم،مع الخادمات لحمل الأطعمة وأطفال الحضرية التي ترافق النسوة، مرتدية الحجاب، بعيداً عن الرجال. مع هذا تمتلكها السعادة لمثل هذه الفرص، رغم أنها مشروطة ومحدودة. أحياناً تعوّض ما يقيّدها باعتلاء الطابق العلوي من قصر الحضرية، بحجة التنظيف لكي تشاهد تلك المسافات الشاسعة. والفلاّحين ونساءهم وأولادهم وماشيتهم. وصهيل خيولهم. وأصوات نداءات يطلقها بعضهم للبعض من مسافات نائية. مع ذلك تمارس هذه الأوقات بحذر شديد مخافة أن بشاهد ها ويظن أنها الحضرية. وفكّرت بحسرة : هل هي تمتلك القدرة ليوم وبضع يوم، أن تتمتع بما يتمتع به الآخرون ؟ وكما كانت تستطيعه في المدينة ؟ وأسفت على ما رُسم لها من حدود المسافة المسموح بها. عدا تلك الأوقات التي تتسلل فيها للبيوت القريبة لمساعدتهم. ولأمر تُكلّف فيه من قبل صفية ونسوة الشيخ الأخريات، ثم سرعان ما تقفل عائدة. لا ريب أن صفيه الحضرية أكثر لطفاً معها دون غيرها. لكنها لا تبدومسرورة بهذه الحياة، التي تفتقد فيها تلك الحاجيات المألوفة بالمدينة. لذلك فقد وفّر لها الشيخ أجواءً، لكي تمكث جزء من الوقت تقضيه مع أطفالها هنا، أشبه بالاستجمام. ثم تقفل عائدة إلى بيتها في المدينة. ويحرص الشيخ أن تكون تلك الأيام لا تتعارض مع أيام الدراسة، ويفضل أيضاً أن يكون الجوملائماً وجميلاً. في حين يمارس هوفي أوقات تواجدهم صيد الطيور البرية والمائية من أجلهم. فيهرع أطفالها فرحين للقاء والدهم ورؤية ما اصطاده لهم. كذلك يساهم الفلاحون بصيد السمك وإرسال الكبار لأبناء الحضرية. كان الشيخ يحلم أن يكون له أبناء وبنات ذونشأة مدنية، حلمه أن يكملوا دراستهم ويصلوا إلى وظائف مرموقة. هذه هي جزء من أحلامه. لا يريد أن تنغلق عليه الحياة، التي لا يتوفر فيها ما يتوفر في المدن التي عاشها في بغداد وحتى المدن القريبة. كانت الزوجة الحضرية حريصة على أن تختصر كلماتها مع سعده. أما لماذا، فسعده لا تعلم. فكلماتها بحدود ما تطلبه من واجب. وتحاول أن تسمع من معلومات عن نساء الدار اللاتي لا تختلط معهن وأحياناً تستفسر عن شؤون شمران.. وتجيب سعدة بما يشبع رغبتها دون الطعن بواحدة. ذلك أنها تعلمت من أُمها كيف تمسك لسانها عما يجري في البيوت التي تغشاها وتطّلع على أسرارها. وأحياناً تستفسر عن شؤون شمران. فترسل بطلبه لبعض الأمور التي لا تعرف عنها سعده،فهي ما أن تعلمه بطلبها حتى يهرع إليها وتنسحب سعدة إلى واجباتها التي لا تتوقف. لهثت من العدووالاستدارة. وأحست ببولها يكاد أن ينفلت. حتى الفراغ لكي تبول،لا تملكه سعده فهتفت: - ( عمة...أريد أبول...). صاحت العمة شهد بهمة : - (بولي بسرعة ). كركرت سعده وهي تتأرجح بمؤخرتها. حقيقة إنها توشك أن تفعلها وهي واقفة. * * * في الربعة المطلة على فناء القرية، حيث تجثو، وتنبطح أكواخ الفلاحين أمام شموخ قصر الشيخ حـرب وداره الكبيرة، ومضيفه الذي يبدوأشبه بمخلوق خرافي عملاق والأكـواخ فراخه التي تحبوعلى الأرض بدت كأنّها في سجود أزلي،عُلّقت ( اللوكسات ) التي استقدموها لهذه الليلة،الحافلة بما لم تعتده القرية0تألقت وراحت تبعث بأضوائها الساطعة. فانبهرت وتحوّل ليلها إلى نهار. ظلت النسوة يتحّزمن استعداداً لواجبات ليلة العرس هذه التي سيجري فيها زفاف شمران على عروسه ( كرهباية ). ويعملن دون هوادة مع الخادمات وبدت فسحة القرية صاخبة بالحركة. ترفل بالابتسامات، ولم يتوقف الفرح وصخبه، بل استمر على حرارته لاعتبارات عدة منها تواجد مدير النا حية والموظفين المرافقين معه من مأمور مركز الشرطة وكاتب التحرير والمحاسب وآخرين ولإبقاء المناسبة على حرارتها.ولكون الشيخ – وإن كان لم يبتسم – إلاّ للمرة الأولى فيبدوأقل حدّة مع الصغار الذين ينتظرون، متى ما أنهت الوجبة الأولى دورها من أكل الطبيخ واللحم آنذاك يتجرّءون في اقتحامهم على ما تبقى في الأواني لغزوعظم فيه بقايا لحم وشحمة ولحمة. لذلك يضربه بخيزرانه بأقل حدّة على أجسادهم ـ ربما احتراماً لوجود مدير الناحية ورفاقه ـ فيهربون بما كسبوه بين أيديهم وأحياناً يلطخون وجوه بعضهم بالطبيخ المداف بالمرق. فيثير ذلك ضحك المدعوين الكبار. لأول مرة يتاح أمام الجميع. للصغار اللذين يحلمون باللحم والطبيخ.ولأحلام الرجال.. الذين سيباح لـهم أن ينتشلوا اللحـمة الجيدة ويلفُّها خاطفها بقطعة قماش، ويخفيها في جيبـه، من اجل زوجه. ( كما فعل وْحيّد )، وذهب إليها بعد العشاء،ماشياً إلى جنب النهر. ولضعف بصره ليلاً عثر بالجرف وانكفأ داخل الماء بسبب عشيه الليلي ولم تجد استغاثته وسط صخب تلك الليلة. سوى إن قلة من أولئك الذين لم يتعرفوا على : من هوالغريق. ظل الجميع يتفقدون أفراد عائلاتهم من الرجال والصبية. هؤلاء القلة اصطحبوا معهم أحد ( لوكسات) الاحتفال وظلوا يوجهون الضوء نحوالنهر ولكن الصوت الذي كان يطلقه قد اختفى. ولم يعط المجال لكي يتضح من هوالغريق. كان صوته يدل على رعب الغريق والاختناق من الماء السريع الانحدار، ثم ساد الصمت. كان كل الذين ظلوا يتابعون النهر ينادون على أولادهم. فما أن يتأكدوا من سلامتهم حتى تفتر همتهم في البحث رغم دعوة البعض بمتابعة بحثهم لكن دون جدوى. ثم بعد حين من التفقد عُرف إن الغريق لا بد أن يكون (وْحيّد). ولم يتوقف الاحتفال وصخبه، بل استمر على حرارته لاعتبارات عدة منها إكراماً لتواجد مدير الناحية والموظفين المرافقين معه من مأمور مركز الشرطة وكاتب التحرير والمحاسب وآخرين إضافة لكون هذه الليلة لا يمكن أن يصيبها أي نوع من الفتور. لذا استمرت أجواء الفرح والغناء إلى وقت متأخر. وعاد أبناء القرى إلى بيوتهم عدا ( وْحيّد) الذي لم يعثروا عليه إلا بعد ثلاثة أيام غريقا. وعندما أنتشل من النهر ووجدوا قطعة اللحم في جيبه، لطمـت زوجه وأدمت خدّيها. لكونه وعدها بلحمة كبيرة، يقتل شوقها المزمن، إلى اللحم، فدفع حياته ثمناً لذلك. ولم يكن ما حدث لموت ( وْحيّد) غريقاً كبير صدى، سوي نواح زوجه وولده وابنته. تربّع شمران متكئا كأنه بدر بليلة الرابع عشر. والذي بدا ملكا لتلك الليلة فأحسن من وضع مسدسه المتدلي من جنبه..إذ طالما أطلق رصاصه القاتـل على أبقـار الفلاحين وأخافتهم. وبدت خيزرانه تستلقي بارتياح، بعد جهود مضنية من البط على أظهرهم كأنها ترقّ لأول مرة، بيضاء الوجه، تحس بالراحة والوداعة. كأنـها تود أن تتمتع بالرقة والوسامة، والوجه الناصع، لكي تبدوعلى غير وجهها السابق. في هذه الليلة الباسمة،بدت خيزرانه حالها حال الجميع، كأنها ملتزمة بذلك الخجل، الذي جعل المسدس ينحني برأسه إلى الأرض ويلوذ بغمده. فحسد تلك المصابيح وتلك الطبول التي بدت تندمج مع أجواء المناسبة بّتأن وإيقاع رقيـق سافر، على أنه يستحضر قدراته المثيرة. المصابيح لا يوجد ما يستدعيها للخجل وإخفاء الوجه،فتزيد من ضيائها تألقاً. لوجوه تلك النسوة الغجريات الممغّرة بكثافة، اللاتي يجلسن حاسرات الرؤوس، وشعرهن اللامع يسترسل على شكل ضفائر بعد أن ضُمّخ بالحنّاء، وصدور فارعة،زيّنتها القلائد الذهبية،ولما يتحلًقن به في آذانهن وأياديهن من محابس وأسورة ذهبية. وتلك الثياب، ذات الألوان البهيّة، والوجوه المترفعة. بدا شمران الذي يلوح لسعده من شق في النافذة، رقيقا غادرت تلك التقطيبة وجهه، التي اعتاد أن يواجه بها فلاحيه، رقيقا للغاية. متابعا حركة أخيه الشيخ حرب المتأنية الثقيلة، واهتزاز كرشه، المرهق المشحوم. وكان تطلعه ينـم عن عرفان بالجميل،عرفان يجل عن الوصف. كل الناس تتحرك مـن أجل شمران. القرية تدخل نفيرا منذ ثلاث ليال، فالعديد مـن الناس جلبوا الذبائح، والنسوة يقدمن من بعيد بدفوفهن وزغاريدهن وغنائهن الجماعي، وهن يرتدين أثمن ما لديهن. وفي داخل الدار يقمن الرقص والأغاني، تمهيدا لمناسبة الزفاف،والذي رصده شمران ليلة البارحة، وهويتلصص من شق الباب. فأضحكته سـعده وهي ترقص وسط الفتيات، مرددات أغنية جماعية، وترنحت برأسها الكبير ذوالشعرالمجعد كصوف الحمل : ( عرسك مبارك يا سبّاح الكلب (23) صـفـْﮜة وهلا هلْ على طول الدرب).(24) ما الذي لم يشاهده شمران ؟ لم يشاهد ما جرى لمحاصرة سعده من قبل فتيات القرية،والقرى الأخرى، وسط أجواء من الغبطة والمرح والابتهاج، عندما أرغَمْنَها على خلع ملابسها بكاملها عدا قطعة واحدة، في إحدى الغرف وطلَيْن وجهها بالدقيق ووضعن خطوطا بطين ( الخاوة) على جسدها بكامله،فلاحت كأنها مخلوق غريب. آنذاك لم تبق واحدة، ما تفتقت خاصرتيها من الضحك،دخلن بها إلى حلقة الغناء بين المحتفلات، وتصنعت طابع الجد بالرقص والغناء عارية، دون أن تضحك. ورددت بلهجة حماسية مضحكة : (بِنْت الشيخ لابْن الشيخ جبْناه هذي الرّادها وهذي إتِّمنّاها) كان صخب الضحك قد أرهق أعطافهن، وبلغ الانفعال ذروته. كانت سعده تتصنع (الهَوَس ) والانفعال، فتهدلت شفتاها وجحظت عيناها، رافعة كل هذا بافتعال الحركات المضحكة. * * * وقبل دخول العروس إلى غرفتها اكتظ الطـريق بمجاميع القرويـات مرددات أغانيهن الرقيقة الفتية ضاربات بالدفوف. ( جِبْناها وِجَتْ هَاْلطّيرَه من خَدْها لِِميع النِّيره)(25) كانت ألعادة تجري بجلب العروس على ظهر فرس أصيلة عبر الحقول الزراعية، في موسم ربيعي لا تكاد العين أن تحصي أطرافها المترامية. كان واضحاً حتى لدى الشيخ بريسم أنه أُصيب بكارثة مدمرة لمكانته وطول باعه المتحررة آنذاك. أما الآن فقد أصبحت الحسابات تجري بطريقة لا تبقي على هيبته التي كانت أراضيه ضامناً لها. وحينما خلا بيت الشيـخ بريسم مـن ابنته أحس بالخسارة الفادحـة وتوضح له إن الفرح الذي يتوجه إلى قريـة الشيخ حرب كأنـه كََدَرٌ يطـوي بـيد عملاقة كل ما يمتلكه. وتمنى أن الأيام لا تلد ما ستحمل مما بدا يستلب عافيته ليزيد من مصابه الذي عرّى واقعه الأليم بما لا يُحسد عليه،مدركاً عمق ما ظُلم به على يد حرب. وغادر داره إلى حين مغادرة ابْنته، ترافقها أُمها. بل أنه لا يستبعد أن يتم اغتياله لما يتصف به حرب من الغدر وتدبير المكائد غير المتوقعة، وما توفر له من فرصة لتحقيق أطماعه بما يملك بريسم لكونه لم يُخَلّفْ سوى ( كرهبايه )، أما كيف يتدبر الأمر فعليه أن يجهد ذهنه بإيجاد مخرج مناسب. وقبل مجيء العروس كان قد نظّّم شباب القرية والقري المجاورة الخاضعة لسطوة (حرب) سباقا على الخيل.استقبالاً لدخول العروس ونحر خروف لكي تطأه بقدمها قبل دخولها إلى غرفتها وتباروا تحدوهم بحماسها تلك الأغاني، وتلك الفتيات الجميلات، بينما أريقت دماء الذبائح للوافدين، من رؤساء العشائر الذين ترافقهم هداياهم من الخراف، كل واحد ( أخوأخته (26) تهتز الأرض من تحت قدميه. تستقبلهم عرضات الرجال بالأهازيج والهوسات،مما يستدعي الوافـدين الكبار أن يطلقوا من مسدساتهم الطلقات، بشواجير كاملة، مشاركة مع حماس الشباب. بينما يتجمع ثلة من الشباب يشكلون حلقة يتوسطهم شاب يعزف بنغمات عذبة على المطبك)(27 ) ويرقصون (الـﭼوبية)(28)، فتتخذ الحلقة نوعا من العواطف المشبوبة. ويتكاثف اطلاق النار تعبيراً عن تعاطفهم مع شمران لكي يلاحقوا دخول العروس. ولكي يظهروا أمام الفتيات القرويات اللواتي يرتبطن معهم بمشاعر الحب، لذا هم غير مكترثين لما يخسرون من طلقات الرصاص. فطالما هناك أجواء من الحماس، فلا توقف لهذه الأجواء الحماسية المتواصلة مع هذه الليالي المفرحة والتي تسنح فيها الفرصة لمشاهدة مَنْ يحبون من الحبيبات. زغردت مئات الحناجر،والتهبت الأكف وتواصلت الرقصات الغجرية والريفية، وأمتزج كل ذلك بتلك المجاميع التي أنشّدت إلى بعضها. وتشابكت وأنْدَ مَجَتْ بالرقص الجماعي واستعراض سباق الخيل حتى حلول الغروب. استمرت الأصوات الناعمة والكفوف المضمخة بالحنّاْء بدفوفـها والأغاني الجماعية تردد: ( جبناها وِجَتْ هالطيرة من خَدْها لميع النيرة ) وزخّت فوهات البنادق رصاصها المتواصل : ( طق..طق..طرررررررررررر). و(يُكَنْكِنْ) (29) خلف عاجماً ومنادياً بصوته ذوالنبرات الحادة : ـ (هلهلي يَئوره).(30) فتردد النسوة زغاريدها: ( گللللللل........ش ) وتبدأ حركة الجمبع لتأخذ طابع النشاط والتهيئة ويبدأ التجمع من أفضل الشباب للإحاطة حول شمران وينهض ليحتضنه وزيره، الذي هوأقرب أصدقائه وينطلق صوت خلف بالصلاة على محمد وآل محمد. ويهتف بذلك الجميع مرددين وسط سيل من اطلاق النار الكثيف: ( الصلات والسلام عليك يا رسول الله محمد.. الصلات والسلام عليك يا رسول الله محمد). وكانت تلك الأجواء عبارة عن ممارسة طقوسية رائعة تكتظ بها خيرة الشباب خلف شمران إلى حيث دخوله على عروسه. فيبدأ دخوله إلى غرفتها ليجالسها على سريرها بضع دقائق ليتعرف عليها ثم يقفل راجعاً لاستقبال التهاني والقبلات والتهاني. وكان ما جرى لا يمكن وصف تلك الأجواء الحماسية الساحرة وإعطاءها صورتها الدقيقة. توافد على شمران، عند عودته أخوه أولاّ ثم مدير الناحية ورفاقه من الموظفين ومن بعدهم كبار القوم ثم مجموعة الشباب.ولم يمكث طويلاً ليعود إلى جنب عروسه حتى الصباح. في حين تواصل تركية الغجرية أغنيتها : ( لا لاوْلَلَوْ..عيني وللا ِ گتْ للـﮓلب..لللا ولك تتعب وتعبك موش ألك من حيث هذا يْبَـهْذ لَكْ تالي الليـل رد خالي تالي الليل رد خالي ). شكشكت بصناجتيها،وعلى إيقاع الطبل تَطوّتْ مثل الخيزران. وراحت ضفائرها تتأرجح.وبدأت بذلتها تنفرش مرتفعة أطرافها عن الأرض، ثم تستدير على نحوسريع متواصل، فينتفخ ثوبها على سعته وفجأة تجلس جاثية على ركبتيها. راكعة أمام الشيخ حرب لترسم على الأرض أطراف ثوبها قرصا متساوي الأبعاد ينبسط حولها. ثم ترفع ذراعيها إلى الأعلى وتشكشك بصناجتيها، مائلة برأسها إلى الخلف لتبذل أقصى جهد كي تدفع بصدرها النافر النهدين بكل ما تستطيع من قدرة. كان الشيخ حرب ينزوي بعض الوقت ثم يخرج بخدود متوردة. جلس الشيخ وأستقدم تركية الغجرية، وأقعدها بحضنه وحلّل ضفائرها، فأنساب الشعر الفاحم وتناثر غزيرا، مسترسلا على سجيته. أخرج من مخبا سترته قنينة من عطر المسك وضمّخ شعرها وقّّّبلها كالعادة، وطوحت بعنقها كأنها تدعوه أن يعتقها لتنهض، ولمّا فعل ذلك.. انغمرت هي بصحبة ثلاث غجريّات يتبعنها في حركة منتظمة مع حركتها المتجانسة وإيقاع الطبلة وبانفعال، مرددات معها أغنية ( الهـﭽـع)(31) : ( تعال وشوف عملات الفلك بينا تشتت طيب جمعتنا بتجافينا ) (32 ) وضارب الطبلة يتنقل معهن مثنيا ركبتيه قافزا بحركات (أرنبية)، متنقلا وإيّاهن وسط الربعة الملتحمة. فتحت تركيّة فمها الغجري، باتجاه الشيخ حرب بخبث داعر، خاطفة أمامه. شَعََر أثناءها بأفعوان ضخم يَتَطَوّى داخل جسده، لسعه بناره، فتأججت وجنتاه وأحمر وأستعر، مقابل ذلك التحدي الثعباني، أخرج مسدسه ( الوبلي )(33)، ماراّ به من فوق رأسها، باتجاه السماء، ليفرغه من طلقاته دفعة واحدة. أعد لتركية الغجرية ( كتّافياً) وحزاماً من فئة ( نوط أبوخمسة دنانير ) وألبسها إياهما، ألهبه جوفه، وأحس بظمأ شديد، فتناول على أثره..كاسة مليئة بما يشبه اللبن المعطر المثلج بثلج المدينة، وعينه باتجاه تركية، فغمزت وأمالت رأسها بغنج ودلال، ومست به كرشه وانسابت هاربة. وكان ظلام الليل تثقبه المذنبات المتوهجة، كأنها زخّات من المطر. * * * في الدار المحكم على( الحريم) والنساء المزغردات اللاتي أبحن الأحكام والصمت، ما زالت سعده مسرعة مثل ( الكديش ) وهي تعتلي إلى النافذة، المطلة على الربعة دافعة ثقلها على أطرافها، ثم تنحدر إلى أسفل، لتمر على الحجرات، ثم تعتلي، ملقية بنظرة عجلي على الجمع الطروب من شقٍٍ بلوح النافذة، حيث بدوا كأنهم يتمتعون بحرية التصرف كما شاؤا لأول مرة.وكان جسد سعده الناضح عرقا يضوّع المكان بحرية كاملة.تنظر محدقة بالغجريات، اللواتي تعرّت رؤوسهن وسط شيوخ العشائر، وتركية تتطوى، مشكشكة بصناجتيها، والطبلة تقـرع بإيقاعها الساحر الغجري، الذي يذكرها باحتفال السحرة والشياطين، كأن الغجرية تحترق بأضواء ( اللوكسات ) فتتطوى وتلقي برأسها على صدرها ويديها إلى أعلى، كأنهما يستنجدان، وشعرها كما لوأنه ينتحر أمامها، ثم تركع مستسلمة خانعة وتلقي برأسها إلى الخلف وهي جاثية حتى يلامس ظهـرها الأرض، فترفـع يديها إلى الأعلى مشكشكة بصناجتيها ورأسها يستلقي باستسلام، كما لوكانت ضحية أمام مذبح. وضارب الطبلة ينحني فوقها كأنه قاتلها، ثم تنهض بنصف قامتها وتجثوعلى قائمتيها الراكعتين وصناجتيها تضربان بفكيهما كأنها طير ذبيح، في حـين تربـعت الغجريات الأُخريات خلفها كأنهن يمارسن نوعاً من الطـقوس الغـريبة. وخرطت سعده خديها هاتفة باحتجاج : - يا عيبك..يا فشلك يا ربي، كش برد، ولا بعينها الخجل : كاولية) (35).. تشممت رائحة غير مألوفة وأحست بيد تهبط على كتفها، أزاحت الأضواء المنبعثة، من خلل، طلعة عمها المهيبة، أمامها، وجها لوجه، وفي وضع غير مألوف، أراد أن يسألها عما يشغلها من أمره، وهوما يجهله، عن تطلعها خلفه فتعثر لسانه. أمسك بيدها دون أن يداري ارتباكها، لكنه أحس بيده تزحف، نحوالجسد الرخوالنـافح. وأنفرد وهويتماسك في وقوفه على قدميه، ودلف بها إلى مكان منزويتـعذر على أحد أن يطأه. أطلت سعده من هناك متبلّدة، شاردة الذهن واصلت واجبها بفتور، لم تفقه شيئا، رغم ما أسفر عنه من حالة غير متوقعة، ولم تفكر باحتمال حدوثه قطعاً. إنها لم تعد تفهم حتى كيف تسير. كيف تنقلب تصوراتها التي أجهدت نفسها لتعزز قناعتها بعمها إلى حد أيمانها بأنه ولى أمرها، ودَوّت أعداد طلقات الرصاص، كأنها ترصع دماغها المسلوب الإرادة. وأكتنف الليل المستباح سيل هادر من الصخب والضحك، وضوضاء الأطفـال وقرع الطبول والدفوف والصناجات الغجرية وغنائهم، حتى تحول كل شيء إلى صدى عنيف يؤلم رأسها. وكان تَعرّقُها يلصق ثوبها على جسدها لتحسسها تلك الفعلة بخطأ لم تتهيأ له. فبادرها قول أمها، الذي لابد للأم أن توصيها بما يجب أن تتهيأ له قبل زواجها. وتتعلم بانتباه للعادات التي هي جديدة وغير مألوفة على ما درجت عليه. فما هي إلا ملكا للعم قبل خلف، يحق له أن يتصرف بها كيف ما يشاْء. : فهل ما جرى من حقّه ً أججت النار لكي تتواصل تحت القدور العديدة، وانفتل الدخان لاسعا عينيها إلهاميتين بغزارة، محرضا قرفها من رائحة كل شيء،فقضت ليلها شاردة الذهن، تبحث عن مبرر يهدئ مما ضايق صدرها، عن مدى ما يحق لحرب،إن يمتلكه فيها. ومما يتبقى لخلف فحسب؟ غير أن الوقت الذي خصص فقط لمدير الناحية وعلية القوم كان بعد أن تم صرف الآخرين لتبقى الحفلة الخاصة قائمة حتى وقت متأخر من أطراف الليل. فامتدت أمامهم قناني عديدة وأقداح ملأت بالثلج وبسائل شفاف اللون أُريق من القناني إلى الأقداح. وما زال خلف غارقاً بتقديم خدماته التي استمرت طوال الليل، الذي بدأ يميل إلى الهدوء وإيقاعات الطبل والربابة تحوّلت إلى نقرً رقيق الصوت وقد أنهكه الواجب كما أنهك الغجريات ومن صاحبهن فاستلقى من استلقى من تناوله من كؤوس حد الثمالة. وآخر واحد أنهى الاحتفال الساهر على يديه هوخلف الذي عاد منهكاً مُقطّع الأوصال. لكن الفرحة الغامرة ظلت هي متاعه من هذا الليل كله، وعاد دافعاً باب حجرته ليجد سعده مستلقية تنظر إلى السقف بصمت ودون اكتراث بدخول زوجها وسؤاله عما جرى في هذه المناسبة التي ابتلعت النهار والليل كله.. * * * في هذا الليل المتأخر، حيث نال الإعياء من خلف ما لم ينله سابقاً يعود إلى فراشه بقصد جر ًالنًفًسْ. ومع ذلك كان منغمراً بالسعادة. بوده ـ لوعثر على سعدة مستيقظة ـ أن يستأنس معها بما حدث عما أنجزه في هذه الليلة الطويلة في واجباتها. هي من لياليه التي تخصه إنه أراد أن يقول : هوأشبه بحصان يستطيع أن يحمل على ظهره كل هذا الجهد الليلي بما احتواه وجرى فيه، في الخفاء وفي العلن. لكن إلحاح خلف ذهب هباء وذهبت ملاطفاته، مستدرجاً لها أن تسأله عما فعل وعما حدث.لكنها هيمن عليها ذلك الإحساس : على أنه تافه،أعمى. ضيّق الفكر، لا يعلم ما يدور من حوله. بل ما هوسوى كديش معصوب العينين ومشدود إلى ناعور كل ما عليه أن يدور ضمن دائرة محددة يدور فيها له لا أكثر ولا أقل. وأحست في هذا الوقت المتأخر بأنها لا تحس بأدنى حاجة لا للنوم ولا إليه.. انطوت على بعضها وسط حجرتها متهالكة، من نهار وليل مجهدين. كل شيء له دوي بأذنيها. كل شيء يثير اشمئزازها. لم تعبأ بعبث البراغيث، ولا بدعابات خلف. قرصها من خاصرتها، فهبت كالملسوعة. هذا المكان نفسه الذي قرصها فيه حرب ـ الله يستر...ها سعده ؟ قالت وهي تكاد أن تجهش بالبكاء :- اتركني خلف رحم الله والديك...تعبانه حيل.. حيل تعبانه، تمنيت الله ياخذ عمري. : ـ ها....؟ عمي هذا اليوم كله...تعال خلف..روح خلف، ضرسه يضحك. : - يضحك عليك ؟ : - لا سعده...لكن حسب ظنّه : سعده أريحيّة، حين شاف ثوبي وسـخ من الطبخ. إذا انتهى العرس راح يشتري لنا ثوبين. : - شايف خير خلف، هوتعبنا ثمنه ثوب ؟ هذا ثمن ما دفعناه؟ : - يستأهل....عمنا ويستأهل.. الرب الثاني سعده.. إحنا ملكه.. مثل حلاله. :- أي خلف..هذي هيّه..إحنا مثل حلاله. لا حلاله وأزيد. : - أي...نعم. وأراد ملاطفتها وهويتحسس جسدها : : - دعيني أشوف سعده.. هذا.. راس.. وهذي.. بطن... وهذي رجلين..... وهذي وهذي... لا سعده، ما فاقدة شي.كل شيء على حاله، والذي فقدتيه،نطلبه منه ونقول له : حِطَّّك مْحفوظ. الدنيا حق وحقوق... حقنا ونريده. قهقه كما تدوي الصفيحة الفارغة. انه أداة قرع...لكي يفزع منه كل شيء، الفلاح والحيوان وحتى الطيور. ولكن خلف: إذا اعتلا صهوة جواده، يعرف الفلاحون أي يوم أسود ذاك. إن اتحاد لونه ولون الحصان يكفي أن يعبّر عن الشر الذي يرعبهم. خلف إذا صار عصبيا ( وعيونه حمر ) الله يستر. وخلف عنده مسدس ( كود بند ) وخيزران ( أم رويس )، و( مـﮕوار )(36). والأعوج يكسـر( خشمه ) ويلعن سلفا سلفاه. ما موجود واحد عند حيل ويلوي ذراع خلف. هذا كلام واحد يريد يضحك على نفسه. خلف ما يتناطح واحد وإيّاه. لأن يعرف راسه ما يظل سالم. خلف أخذ شمرته من شمرة عمّه حرب. حرب أذا رغب واحد يتلاوى معه يظل ذراعه على حاله؟ إذا دخل مكان : يقدر واحد أبن والديه يدخل؟ (يلعن ثوى ثواه) و( ينكسر خشمه وخشم الخلّفه ) خلف تعّلّم من عمه حرب. يلوي( خشم) كل واحد أعوج. وجميع أهل القرية يعرفون : كل واحد يعتدي على حلال عمه، خلف يفصم ظهره. و( الفلاح من أهل الرعي والدبيب، لازم يحطّ كلامه هذا ( ترﭽية باذنه ) : الذي ما يحترم حلال عمه، يرده لبطن أمه رد، ويرك( على بطن حرمته ). أي نعم. هذا مختصر مفيد : يعني هناك شيء غير هذا المعنى وخلف مفتوحه عينه على الزرع ؟ مفتوحة عينه على أرض وعرض عمه ؟ تمام لولا ؟ مثل ما يحرص على عرض سعده، يحرص على أرض عمه. خلف وأهـل خلف (يروحون) فدوة لعمّه.من حيث هو( نوماسهم وتاج راسهم). أخيرا هويحتاج إلى حضن دافئ. ولا يوجد غير حضن سعده ويستطيع أن يتمدد على قدر فراشه. لا يوجد له ملاذ أكثر من سعده. لكنها وكما هي في حالها البائس هذا، فريسة لهمومها. ما هي همومها ؟ كما يفسر خلف؟ هي تعبت اليوم تعب ما جاري. ويجوز حسب ظنه : همها أن تشبع كرشتها. : - سعده.. شبعت كرشتك لحم ؟ إنها لا تجيب.......إنها كبقية النساء – كما يتصور خلف – لها هموم واجبات.. حتى تكون خبزتها التي تبلعها حلال. إي نعم. لازم واحد يحلل خبزته : ـ أنا إذا ما عندي قدرة أحلل خبزتي واضحي بكل شيء لعمي.. ريت عمري بالّلحد. هذا ما يعتقده خلف، ولوكان غير ذلك ما يشغلها.. لحفر في ظلام الليل بأظافره وأستل حقها وأتى به إليها.......ه يا ليته يفهم كل الأشياء. لقد أغلق دماغه وعينيه وآذنيه عن كل الأمور. ولم يسمع ويفهم غير أمـر أولياء نعمته. وخاصة عمه.فهومنذ نعومة أظافره لا يعرف إلا : أنه خلق من أجل ذلك الواجب : (عونك محفوظ ). كان أسيراً لذلك.. ملكا صرفا. هولا يعرف إن مثل هذا الامتلاك محرّم.هويعرف إن الله خلقه ومن قبله ذويه... هكذا. لا أكثر ولا أقل، هذه الحدود التي يفهمها دون أن يفرط بإبعادها. لذا هويسهر على الزرع حتى يحين القطاف والتوزيع. البقاء طول الوقت فزّاعة. وشر أسود على ظهر حصانه الأسود.ومع انه لم يخطر على بال احد أن يشتمه، لكنه يقرأ الشتيمة في عيونهم الضاحكة غبنا. ومع ذلك...هولا يفهم الدنيا بغير هذا الشكل. ولوصح خلاف ذلك لأعتبره أمرًا شاذا مرفوضا. لذا..أجهض امرأتين، وقتل وأباد العديد من الأبقار والمواشي المتجاوزة على الزرع. ومّرغ وجوه العديد منهم بالوحل. وعجب....لماذا لم يكن فارغ القلب كأبيه ؟ الذي لا يعرف سوى الضحك وطيبة القلب ؟ لكن ما يحدث له الآن أمر مختلف. أمر يحركه عمه. فذاك زمان غير هذا. وأبوه خلق لزمن يختلف، زمن ينام الضيف إلى جانب زوج المضيف ولا يدور في قلبه غير ذكر الله، لذا فهويحسد أباه على مجرى حياته تلك. وإذا كان أبوه ابن كل العشيرة وكل البيوت بيته، فأن خلف لا يعرف الصدق إلاّ بحضن هذه اليتيمة. لكن سعده هذه الليلة باعت نفسها لهمومها التي لا يدركها.هل لأنه بلا قلب ؟ قيل له ذلك على لسان امرأة قتل بقرتها وأجهضها. قالت : ـ أنت طبل.. لا تفهم ولا تعلم. طبل بيد غيرك. ثور عمك شغلته ينطح. عندك غير شعله؟ لا... لكنه على خلاف الذين يتهمونه : يعرف إن قلبه عامر بالحب ويفكر، لكنه لا يسع سوى ربّ نعمته العم حرب وسعده، فلوكان لا ينفع لشيء ما فكر عندما يكون مهموما فأنه بحاجة إلى سعده التي يلجأ إليها عند تعبه وعند همومه. وما أخافها يوما ولا فرض عليها شيئا.ولا أكل مما يستطيع أن يوصله إليها من المدينة، وما حدّثت نفسها أن تثير له متاعب. طيلة زواجه منها. لم يلمس منها سوى الطاعة والسن الضاحك ولم تشكوله من أي متاعب واعتراض على مضايقة أحد من طلب وتكليف بعمل ليس من شأنها. كيف عثر على هذه الدرة؟ لذلك كان يتمنى أن يفرحها. فعند ذهابه إلى المدينة يصطحب لها: الملّبّس والرمان والبرتقال والنومي الحامض والحلو، وحتى عطر (المسك ) كل شيء يشتهيه لها ويحرم نفسه من أجلها، ما أن يصل إلى فراشه حتى ينسى هموم يومه. لكن هويعجز عن فهم الأمور المخفية، هودائما يفضل الأمور السهلة. وإذا صعبت مثل هذه، أما أن يحسمها بمسدسه.وإذا لم يستطع ويجد إنها أقوى منه كما هوحاله مع عمّه، فأن عليه أن يحني رأسه لها. لأن الحياة هكذا يفهمها. صح خطأ...لا تعنيه النتائج. لذا فأن هذه الأمور لا تحتاج إلى أن يشغل باله فيها كما تفعل سعده. وقال: ـ أين وصلت اللـ (كِِرّة الزغيرة) (36). ألتي لا يتوقف طرادها نهارها وليلها؟ قالت: ـ أنا أُفكّر بكلام الناس. حتى أنتَ يقولون عنّا( كّرّه كِريرو). وظلت كلمتها دون إجابة، كأن الموضوع لا يعنيه: تداعى رأسه إلى جهة اليمين ناعسا وغط بشخيره. * * * وقبل فعلة (حرب) كان دماغها كأنه قد أُغلِق عليه. فلم يتبحر في الأشياء التي تدور حولها وتراها بعين أولئك الذين هم من أهل الله. غير أنها في قناعتها التي قويت فيها فطنتها وظلت تطرح أمام أي موضوع كلمة ( ماذا يعني هذا الطلب؟ ماذا يعني هذا السؤال؟ لماذا قيلت تلك الكلمة؟ ما المقصود باستدعائها ؟ ) مثل هذا الذي يطرح، تحس أن هناك أمر مبيّت خلفه. إنها تريد نفسها أن لا تكون رخيصة إلى الحد الذي جعلت الصدفة توقعها في استلاب أعز ما كانت تقلق من أجله أُمها. هي تكره تلك الحالات التي تحاول أن تظهرها بالخائبة القاصرة، لا تمتلك ما يمتلكون. وكأنها لا تفقه الأمور بسبب كونها من منحدر يتصورونه متخلفاً. ولوكان ذلك عين الحقيقة: لماذا تبدوقادرة متفوقة في أن تبدع بما يضحك الآخرين حتى في المدينة ؟ لماذا يصل بها الأمر، حين يستلطفونها وتمزح حتى تجعلهم يستلقون على ظهورهم من شدة الضحك مما تتصرف وتقول ؟ وحينما تخدع أدمغتهم النائمة، فتجعل من نفسها لا تميز حتى بين الألوان؟ ومع ذلك تستدرجهم إلى حيث تشتهي من الأمزجة. أي : قادرة أن تضحكهم وتبكيهم. قادرة أن تذهب بهم إلى( الشط وتعود بهم عطشى ). لماذا تُغْلَبْ على يد إنسان ما كانت تنظر إليه إلاّ بعين الاحترام والتقديس؟ أَسَرًقَها عبر ظنها الذي انطوى على ثقتها به ؟ هل هذا ما استقدموها من والدتها لأجله؟ وما بعد الفعلة أمكنها أن تبني استنتاجاتها بطريقتها التي تمكنها أن تكشف وتعري الأمور حسب قدرتها على الفهم ومعرفتها على هذا النحو: فهي ألان.. لماذا خُدعَتْ بهذا الرجل الذي لا يعتمد على عقله ( كما تراه الآن بطريقة فهمها للأشياء ) لماذا تُغْلب على يد إنسان ما كانت تنظر إليه إلاّ بعين الاحترام والتقديس؟ لماذا أظهر واقعه على أنه مجرد مخلوق يخضع لسيطرة أدواته ذات القـدرات الحيوانية. وقدراته في الخداع. والاستحواذ على حق غيره بطرق حتى وإن كانت نجسة؟ أيرضى رب العالمين على ما يجري من قياس هيبة الشيوخ عبر ما يمتلك أحدهم من عدد رؤوس العبيد من جنسها ؟ هل هم نعاج؟ فيقال : ـ كم رأس يملك الشيخ فلان ؟ فتكون الإجابة كالآتي: ـ ثمانية رؤوس... وغير هذا. ألا يدلل هذا التعامل على ظلمهم وعلى غبائهم وقصور رؤيتهم ؟ إن سـعده في قناعتها تتفوق على جميع ساكني الدار بفهمها للأمور. فلماذا يحسبون عدّها بطريقة عدّ رؤوس الحيوانات ؟ ويتصرفون معها بطريقة قد يترفعون أن يصنعوه مع حيوان كما صنعوه مع العبدة سعده. هل يتصورون أبوي خلف عندما هبطا حتى بحيائهم ـ هم أغبياء؟ وليس تضحية جسيمة من أجل رب نعمتهم؟ لماذا تقبلت سعده بكل ارتياح وشعور بالتضحية : أن يتم انتزاع ملابسها قطعة قطعة، لكي تُضحكهن من أجل شمران؟ كل تلك التضحية والسخاء: قد أُتيح له أن ينقلب رأساً على عقب ويستلب عرضها بفعلة الشيخ الشنعاء وبتلك البساطة. إذن كم هي رخيصة هنا؟ إنها تدرك وقوعها في إحبولته لا يمكن انتزاع نفسها من شعورها بوطأة تلك الهفوة، وبأنها رخيصة جداً. أما أن تقبل بتجاوز وقع هبوطها، لكونها، عبدة مستباحة لمالكها، وإمّا أن تلجأ إلى باطن النهر وتنهي حياتها الوضيعة. وفي كل الأمور التي قلّبتها رأت من الغباء أن تضحي بنفسها مرة ثانية. لكنها في مجرى الحياة التي بدأت تمارسها، في هذه الدار، ظلت الأمور تعطيها رؤيا واضحة وذكية. وأحياناً هازئة بما يحيط بها. فهذا الرجل البطين المقرف، يمكن أن توصل إلى دماغها بما يمكن أن يسمى استنتاج : على إنه يتطور نُمُوّهُ في موقعين: في نموبطنه، ونمووعيه بين ردفيه فحسب. وإنها واقعة تحت هيمنة لا تتحكم هي بنزواتها. هي فقط تمتلك حقها في أن تعرّف نفسها.. بعنزةٍ لا قدرة لها على ستر عورتها. هذا هوالذي تملكه بحقها دون أن تخاف من نتائج حكمها هذا. وفي رؤيتها هذه أمكنها، ما معناه، أن تستنتج باستهجان : إن الحياة هنا تمشي على أساس تقبّل كشف عورة الأوضاع.. فبدل أن يكون الناس على بينة مما يجري حولهم، وأحياناً من تحت أردية بعض نسائهم. فإنهم يغلقون أدمغتهم لتقبل ما يعيشون على ما اعتادوا عليه. ويكبحون إدراكهم لكي يتقبلوا طريقة هذا الذي يجري. وهم لا يمتلكون القدرة أن يعرفوا : لماذا أصبح هذا الرجل دون غيره، مالكاً لكل شيء في هذه الأراضي الشاسعة. وفي هذه الأكواخ ؟ لماذا يبدوالناس يتقبلونه كشخص ينحدر من أصول مقدسة، حتى لوكان غبياً فاسقاً. لماذا هولا يرى الأمور إلاّ في رغباته الوضيعة ؟ ويصعب عليه ما يرى ما هوأسمى وأجل من ذلك كما شاهدته في المدينة ؟ كانت هناك ترى التجار وحتى منهم اليهود والصابئة، الذين يتعرضون للمضايقة والاستهزاء، يتقبلون ذلك بصمت. تراهم يعتمدون في قوتهم ونفوذهم ونموأملاكهم بحنكة عقولهم. أما هنا. فإن( حرب ) تكمن قوته في أشيائه الدنيا. في مقدرته الشيطانية والحيوانية. ماذا لوإن خلف فعلها مع إحدى نساء الشيخ؟ ألم يكن هذا وارد؟ لكنه سوف لن يقدم على فعل مثل هذا. على الأقل لسبب قوي. هوالوفاء لولي نعمته. أوقد تحمل من صلبه، ويكون اللون اللعين هو.. هو. الذي سوف لن يتمرد ويتخلى عن جنسه. عن نسله التي ستلده تلك الزوجة. أما سعده.. لوحدث لها وأن ولدت طفلاً من نسل ( حرب ) فلا تدري إن كان خلف يمتلك الشجاعة ويثأر لنفسه. وعلى الأقل يتساءل: ـ كيف جاء هذا المولود ؟ ويتقبل الأمر بالطريقة التي على سعده أن تخضع لتقبل مهانتها تلك. وقد احتقرت هذا الزقاق الذي أسموه بيتاً، وما يجري فيه من انحراف في الحياة التي تحدث في داخله. وأغلب من يسكن خارجه لا يشاهد سوى الجدران العالية. أمّا خلفها فهي مُغلّفة بحصانة حظه وبخته. كم حقدت على نفسها : أن توهمها عواطفها من أجل اللقمة التي تبرزها وتلقيها في اليوم الثاني في الخلاء ؟ بتلك الرائحة الكريهة. كم خُدعت هي وأُمها جراء ذلك ؟ فتصورت قدسية هذا الرجل الذي تعرى وبان متهتكاً لا يعطي ولا يمتلك أنظف من تلك الفعلة. ولوفرضت سعده وعادت لوالدتها، ما هوالعذر الذي ينبغي أن تصرّح لها به ؟؟؟ إنها مشكلة ينبغي على سعده أن تتعايش معها وتتحمّل نتائجها والحبل على الجرار. لقد كانت أُمها قد نغّصت عليها الحياة، خوفاً من زلة هينة يبديها أحد أبناء العائلات في المدينة التي تتردد هي وأُمها عليها مخافة أن ينظر إليها مجرد نظرة غير نزيهة. عجبت من هذه الأم أن تكون ليست بعمياء النظر فحسب، بل عمياء قلب وبصيرة. وثقة منها بالرجل البخيت وزوجها،عجبت أن توصيها بتسليم قيادها لامتلاكها من قبل الشيخ قبل زوجها. وحتماً ما قصدت أن يُعرّيها. ولكن هذا ما حدث. ما درت بحقيقة ذلك الامتلاك : كم كان مخزيا ً؟ جعلها تخشى أن تصير أشبه بفراش وثير يتبادلان امتلاكه بالتناوب. كم كان مخزياً أكثر بكثير من نظرة صبي وشاب من أبناء المدينة؟ ربما كان لا يقصد أكثر من المزاح وليس أن يطأ جسد سعده بجسده؟ * * * سعده منذ ما حدث معها، تخلت عن مراقبة (حرب). بل إنها لم تجد شيئا ذا قيمة يستدعي أن تطل لأجله من وراء الحائط. أصبحت الأمور واضحة. كانت تتصوّره شيئاً آخر. بحيث أنها تشعر بالخجل كما لوإنها أباحت شرفه. وفي أعماق الليل الذي أبتلع خلف بكامله وحصانه في واجبات الحقل، وفي الدفاع عن عرض وأرض عمها، ظلت ترعبها اللحظات التي تمر ولا تستطيع حزرها.وكررت سؤالها: ـ هل إنها ما دامت عبدة له، فهي ملكه وتحت تصرفه ويبقيها تحت الطلب ؟ مرت الأيام وسعده في خوف أن تُرغمْ على هذا الواجب الذي قد يفاجئها دون أن يكون بحسبانها. وعجبت من تحذير (حرب) أن تخفي الأمرولا تبيح به. حتى خشيت أن تتحوّل كواجب فرش الربعة : هي أيضا غدت فراشاً. ( فراش... لكن أسود ). يتحرك ويدرك ويتعب ويعرف هذا زين وهذا عيب وهذا... و( تونّس ). كل الناس تقول سعده جوهرة. سعده دمها خفيف سعدة لقطة.سعده فلته يا خلف. لكنها استبيحت بالسر في الظلمـة وحتى ( يتْونّس ) عمها حرب، وتخرج من نفس المكان حالـها حال النساء السويات، من الذي يعلم بهذه الأمور المخفية ؟ هل هومن صنع يديها ؟ ويجوز هذي الأمور ماشية.. قابل هي أول امرأة صادفت هذا الذي وقع وتكرر معها ؟ لكنها.. وإن هي غير راضية عن نفسها... إلا إنها مدركة أكثـر من أية امرأة سوية.. تدرك أشياءً. وأشياء كامنة وملفوفة تحـت العباءة لا يعرفها الجميع إلا من هي على شاكـلة سعده....الثولاء , المطيّة،( طايْحَة) الحظ،. بنت الغبرة، ذات الثوب المثقوب من تحت(قفاها ). أول شيء عرفته : ( حرب ) عريان كما خلقه ربه. أي نعم.. عريان.. عريان. وحين يتعرى يبدومثل (الحرمة ) الحبلى، بكرشه المقرف المترهل: ـ (.....خ.....تف ).(37) وحين يتعرى: ـ ( أخ.....لعبت نفسي ). لكنها في الآونة الأخيرة عند رؤيتها له من بعيد فأنها توشك أن الضحك من هذه المهزلة التي وقعت بها (48) أي نعم : ـ أين الحظ والبخت... يا عمي حرب؟ في الأيام التي قضتها بعد الذي فعله معها، في ملاذه المنزوي، ظلت تنتبه للجدل والكلمات الجارحة التي تطلقها زوجه صبريّه ـ كم تغيرت صورتها في ذهن سعده وكبرت بعينها؟. ويتَضَّحَ لها جدوى تسلله في الليل، يذهب إلى كوخ ( رشّاده ) الذي لا يبعد كثيراً عن الدار.. ويتضح أنه كان يستدعيها لملاذه الخاص، وهناك يجري مع ( رشادة ) كما جرى مع سعده. وربما كان يمارس علاقته مع ( رشادة) قبل مجيء سعده. ظلت تنصت بكل اهتمام للجدل الذي يدور بين نسائه، عدا( صفيّة) الحضرية التي لا تلتقي معهن. حيث تنفرد بقصرها الذي يكاد أن يكون مستقلاً عن دارهن، وربما توفر لها أن تقتنع أنه متحضر في حسن تصرفه. وهي مقلّة بمكوثها في الريف. ولوعلمت لا نقلب على رأسه عاليها سافلها. مضى وقت على زواجه من الحضرية كان يعلق صورة لامرأة من بغداد التي يتردد عليها باستمرار، ويرسل لها صفائح السمن الحر والرز والسمسم والملابس، بسيارة خاصة. وقد علمت سعده إنه عندما ينام يضع رداءها على وجهه ويبكي. وما أن اكتشفت زلته تلك، حتى تسبب ذلك بأن تهجره الحضرية وتعود للمدينة. وكان من الصعب عليه أن يلقاها. كانت ترفض أن تقع عينها على وجهه. وقالت له من خلف الباب الخارجي دون أن تسمح له بالدخول: ـ ما كنت أتصور أنك رديء دنيء حتى على العاهرات. لقد زوجني أخي لك على ظن منه : أنك نقي النفس. ابن أصول وفصول. كانت تخاطبه من خلف الباب الخارجي. وبعد محاولات مضنية عادت على أن يرفع صورة عشيقته ويقطع صلته بها وإلاّ ستهجره أبداً. كما تقول ( صبريه) بيد أنه : ـ ( إل بيه..بيه، ما يْخلّيه). كم تغيرت صورة هذه الزوجة في ذهن سعده وكبرت بعينها؟ كثيراً من السلوك الشائن للشيخ أصبحت سعده على بيّنة منه. إنها تبدوأشبه بالشامتة : أن تتضح الأمور لديها وتطّلع على قيمته الشائنة. هل يعلم خلف بالسلوك الذي يمارسه عمه الشيخ حرب ؟ ُمؤكدٌا أنه يعرف. فما دام يذهب إلى بغداد ويحمل معه حاجياتها، معلوم أن خلف يخفي عليها مثل هذه الأمور. ربما يرضيه الأمر ولا يعتبره معيباً. تعجبت كيف كان يعلّق صورتها أمام عائلته، وقد شاهدت سعده ـ بعد مغادرة (صفية) الحضرية ـ صورة تلك المرأة ذات الملامح المشبوهة. وقد تكون علاقتها غير قاصرة عليه. ومع ذلك لا يتحرج من تعليقها أمام القاصي والداني. رأت سورة تلك المرأة. ذات أنف كبير لا يناسب وجهها ولها نظرة وقحة، وهكذا تتصورها. وأُصيبت بالرجفة. تلك الملامح الخشنة كملامح الرجال، وتوصل عقل سعده الدائب على التحري : إن شكلها يوحي بالعهر. كانت تلف شعرها بشال وتتعصب بعصابة. وعندما تراجع عقلها بشان تلك المرأة فإنها من غير اليسير أن تتقبل هكذا نساء. ويوجعها أن تنجر لهبوطهن. هل هي تختلف عن هاتين المرأتين أم هي أيضاً دخلت ضمن سلوكهن؟ في قناعتها ـ وستصر على هذه القناعة ـ أنها لا تنتمي لهذا الصنف ولم تكن ممتهنة لهذه المهنة. إنها فقط لا تدري كيف جرت الأمور معها وجرى الاستحواذ على عورتها. وإنها تعتقد بكونها مازالت رافضة لوضاعة (حرب) وزجها معه. وعجبت كم هي تمقت أمثال تلك التي في بغداد وحتى( رشاده). ذات ليلة و( رشاده) تتسلل من الدار ليلاً،عند غياب صفية الحضرية نادتها سعده: - رشاده... تعالِي هنا. جاءت رشاده دون أن يبدوعليها أي ارتباك: قالت رشاده : - كنت أُنظف غرفة عمي الشيخ. ردّت عليها سعده : - هوهذا واجب أحد من غير عائلته؟ أين تركت حسون ؟ قالت : - بالزرع. بعد تفكير طويل ورشادة مطرقة صامتة فكرت سعدة : - ( كم يكسر الخاطر زوج رشاده بهذا البرد والمطر؟ كم هوناقع بالماء وملوّث بالطين ؟ يركض يفتح ساقية ويغلق ساقية. بالليل وحتى بالنهار؟ البرد ينخر بعظامه حتى يوفر لها الخبز. يا لنا من نساء رخيصات ؟ يا للحظ العاثر الذي أثقلنا بهذه النجاسة ؟وفي الأخير لا يسلم على عرضه ولا على ما يجني من محصول). فعلاً كان ثلثي ما ينتج يذهب إلى عنابر الشيخ ليبيعه ويقضي معظم عامه في بغداد يفعل ما يشاء دون رقيب وحسيب سوى خلف الذي يكتم أسراره. أما حسون وأمثاله فلا يسلم أحدهم إلاّ على جزء ضئيل لتقتات عائلته. ومن جديد يعود ليستدين البذور للزراعة. الفلاحون يظلون مدانين طيلة حياتهم وحسون مدان حتى على وفاء زوجه. لوإنها استطاعت أن تقول ذلك، لولا أنها... – لولا الهفوة التي تعرضت لها ـ لقالت كل شيء.إنها ترصده بعينها. لولا... ذلك الذي تعرفه ما هو، لأمسكت بآذان الخائفين وقالت ( خائبين... يا مسخمين... بعد كم مخدوعين بـهذا الشليف ؟ بعدكم تايهين بحظه وبخته ؟ أعـدلوا روسـكم وأضحكوا عليه من كل خاطـركم، لا يغركم حظه وبخته. ترى هوشليف(38) صوف. ليش(39) تخاف من شليف الصوف ؟ صيروا ( زو) وجزّوه حتى يظل مصلّخ. وحطوا إصابعكم عليه وشوفوه ينخسف لولا ؟) ما الفائدة ؟ سعده ولوتعرف كل شيء لكن مثل بالع الشفره. حتى لوصاحت بعالي صوتها مـن يصدقها ؟ من يتجرأ ويجرّب ؟ لكـن ( حرب ) عريـان حي على الصـلاة... عريان بالظهر ( الأحمر ). وأن أسرّت لخلف بالحقيقة، ما الذي يحدث ؟ من هوالذي يتحمل القسط الأكبر من الخسارة ؟ خلف أم هي أم الشيخ ؟ من العسير عليها أن تقر خسارة أحد غيرها. وربما منذ أن راح وسيطاً لإيصال ما يوصله لعشيقة عمه في بغداد فقد سقطت كرامته وأصبح قوّاداً. وعندما أزاح بنفسه تلك الحشمة باستدعائها بسحبها إلى مخدعه دون أن تستطيع الخلاص، أسرت له النكتة وهويرتكب فعلته : ـ (حرب) ضنّيت غايطك ذهب. وابتسم لكي يتجاوز الكلفة بينهما، لكنها ثقلت على فؤاده فتجرأت لتقول بشماتة : ـ شفتك بالحلم تلبس عمامة ولي. :................................ :ـ حرب.. الناس تخشاك. رددت هامسة كأنها تحلم : - حرب... أنا حلالك. :ـ......................... :- حرب..هذي قسمة حق لوباطل ؟ مناصف ؟.. ومع العبيد ما يصير مناصف. العبد يعطي ما ياخذ. :................... : ـ حتى لوبالقوه..هم أنا الخسرانه، لأني سخله(40) سوده وخلف سخل. حلالك وأنت صاحب حلا ل، متى ما عجبك تبيع وتشتري بيه.. وحتى تريد صلخ جلده ؟ هوحلالك.. : ـ أو.............. ه. : ـ وإذا رميت نفسي دخيلة على حظك وبختك تحميني ؟ لا... أنا أيضاً ألخسرانه. خلفة عبيد مََدْمَغَه ؟ العبد (يكنكن)..انتم ما( تكنكنون) حشاكم.انتم بس تفعلون هذي. بينما ظلّ حرب مشغولا بـإعادة ملابسه إلى حشمتها، عجب لجرأتها. كم كانت تتحاشى رؤيته ؟ كم كان هذا لا يخطر بحسبانه؟ لكن تهتكه ألهاه كثيرا. فلملمت ملابسها متسللّة إلى الخارج ووضعت يدها ألأخرى على فمها : ـ بيـ...............ط بيـ.........................ط (39) أنها تبصق على هذا الكذب والغش والرياء والأشياء المقرفة. إنهاامرأة قوية. رغم انتهاكها تشعر أنها قوية ٍيستطيع هوأن يفصم رقبتها، ويميت صدى عفاطها. لكنه عبد لشهوته كعبودية خلف لأرادته. حتى لعملية تعدد الأنواع لهذا الاغتصاب.حتى لومارس علاقته مع زوجاته لومع إحداهن فأنه يطفئ الأضواء لكي يوهـم نفسه بفراش آخر. * * * مضت على سعده...أربعة أشهر، بعد زواج شمران. ولبط شيء ما في أحشائها عرفت، بين الشك واليقين، انه جنين. كيف تتأكد أنها حامل؟ وهل ينبغي لها أن تفرح كبقية الحوامل، أم ينبغي أن يُكسف بالها ويكون مصدر عار وقلق وشعور بأنها زانية؟ وإذا كان ذلك هوما ينبغي أن يقال’ هل هي التي قادت نفسها لهذا المصير أم أنها اغْتُصبت غصبا؟ من هوالأب الفعلي من إثنين لا غيرهما؟ واحد يحق له ما يمارس معها والآخر مغتصب وضيع ؟ هل تتحمل ذنباً عن صمتها أم ينبغي أن تكتم الفعلة حتى يفرجها الله؟ لا تدري. لم تعين ولا ترغب أن تعين.س لكن الفضيحة قادمة. العديد من الانتهاكات كلكلت فوقها.إذن من هوالأب ؟ أغمضت عينيها ودمعتا وراحت تستمر بالبكاء، لا تريد أن ترغم نفسها على إقرار ذلك أكثر مما هي فيه.. لكي لا يعتم كيفها. أرادت أن يكون لها طفل من خلف من لحمها ودمها0 من فصيلتها الوضيعة المحتقرة. ولم تفلح من تهربها من هذا الواقع الذي يدوي في دماغها. هي قادمة على حالة محرجة، فازدادت همومها حجما. وكان عليها أن تعرف أولا : إن كان هذا هوالحمل.س رغم إنها، في قناعتها، إلاّ إنها اكتشفت، كم دارت عليها طاق الرحى وطحنتها بالكامل ؟ فهي عاجزة أن تطرد من ذاكرتها تلك الهفوة، التي وجدت نفسها تنحدر إلى قرارها. تسللت عبر الطريق المؤدي إلى غرفة شمران، فالوقت ليلاً وان كان القمر يبعث بآخر نوره إلى الفناء، لكن الليل ماض إلى عمقه. ولم يبق من ضوء سوى ذلك الكابِي. متسللا عبر خلل في ستارة الغرفة. هي.. تعرف... إن ( كرهبايه ) تقضي ليلها لوحدها، في حين يمكث شمران وبصحبته خلف مع الشحنات لحراسة بيادر القمح والشعير. لاح الضوء الواهن يتسلل من النافذة، فدبت بقدميها.كان الصمت مهيمنا. أرادت أن تدفع بيدها الباب.. تريثت، ألصقت وجنتها على الشق باحثة عن ( كرهبـايه )، كأنها قادمة على الإدلاء.. بذنب..ركزت نظرها إلى الداخل وجفلت : ـ يا...................ع. هرولت بخفة خادشة خديها. تعثرت أكثر من مرة، وأوشكت أن لا يحملاها قدماها إلى حجرتها. قلبها يخفق تحت حنجرتها، وصدغاها ينبضان، أذناها يدقان بهما مائة هاون : - كش..برد..كش...برد. سترك ومنعك ربي. دفنت وجهها باللحاف وغمرها شوق حقيقي إلى زوجها. * * * لكن خلف لم يكن خالي البال. رغم إن مشاعره بقيت كالعادة دفينة. حتى أشواقه لزوجته هي الأخرى بقيت دفينة. أمعن خلف نظره في هذه الكتل من البيادر المترامية وعلى مسافات قصية، تتطلب أن يتفقدها باستمرار. بيادر أتعبته من تفقدها المتواصل. المرهق ليلاً ونهاراً. وحسد شمران على ذهابه نهارا وظل حرمانه من مشاهدة زوجه يثير فيه لواعجاً تستدعيه أن يراقب كل شيء ليربطه بإحساسه بالحرمان. ونسيان كونه له زوجة، جدير به أن يلتقيها. كل الأشياء التي يشمّها تدفع بعواطفه إلى سعدة. رائحة السنابل الناضجة والجِلٍْ.أصوات الصَرّار. وقبل هذه الليلة، مرت الليالي الربيعية، دون أن يغـادر خلف محلة البيادر، ينصت إلى همس الطيور في عمـق الليل. حتى القش. أشياء لا تعد ولا تحصى، تذكّره بذلك الشعور الذي لا يعرف كيف يعبر عنه.الطيور التي تتبع بعضها بعضا في النهار، واختفاء أُنثاها في عمق الحقل فيروح الفحل يطلق صوته بحثاً ويتواصل النداء دون هوادة وينشغل خلف بهذا الذي لا يعرف بماذا يسميه؟ لماذا تكمن الأنثى فيتأجج قلب فحلها. لكن ما أن يعثر عليها حتى يحلق بعيداً ويضل ينتظر، حتى إذا يئس عاد أدراجه إليها. وأصوات الجنادب والفراشات الدائبة بأجنحة هادئة، كأنها مثقلة بحجمها العريض. في الليل ينصت إلى ما يشبه الهمس. إنها محادثة قصيرة خافتة. أشياء تدفع بشوق مبهم للاسترخاء وحكاية مع زوجة تستمع إلى منادمة زوجها. جنبا إلى جنب وعلى فراش وثير، بعيدا عن البعوض والبرغش وقش الحقل وسفيه والخوف من ألأفاعي , والعقارب. تلك رغبة غامضة لا يدرك لها معنى. لكنها تقوده بإغراء خفي، ليحن إلى زوجه.حتى الطراد بين الخيول المتحررة من أعنتها، وقفزات بنات عرس ونقيق الضفادع، ونداءات بنات آوى وابتسامة النجوم. بل وحتى التفاف الأفاعي على أشباهها أشياء تحرّض القلب والجسد لامتصاص كل الصبر. في ساعات خلوه إلى نفسه سيظل يحلم بليلة لا سلطان فيها عليه. سوى تلك القرعة العزيزة المتدحرجة ليلاً ونهاراً. التي تتحرج أكثر من أي واحدة من خدم الشيخ، إنها هي الأخرى بدأت تنشغل بهموم لا يعرف كنهها. قد يكون السبب استغلال سخائها بنفسها. كم هناك أشياء لا يدركها؟ كم هوبحاجة إلى قدرة على امتلاكه الفطنة وتفسير الأمور؟ لكن ذلك من المؤكد سوف يسبب له وجع الرأس، من الأفضل أن يدع الأمور تسير على سجيتها. من هذه الأشياء التي لا يعرف منها إلا قدرة ربها، والتي تنخرم عن جمالـها. حاول أن يتذكر... كيف تحكمه الأمور إلى هذا المكان. وأعاده همس شمران إلى وعيه : - أتمنى يا خلف... : ـ عونك محفوظ. -: لا...........ما عندي شي. وتطلع خلف إلى تلك البيادر المترامية التي يتفاوت عليها قوة انعكاس ضياء القمر. كتل شفافة العتمة، مترامية، يغرقها الضوء الشاحب المهيمن والساهر بجوار أهل عالم الليل كتل بقدر رؤياه...يـ.............. ـه..حتى ينقطع النفس. وإدرس وذرّي، وقسَّمْ، وهات الجِمال وتحميلها بحصة الشيخ إلى عنابره لحين تسويقه. فردد مع نفسه: ـ كل هذا؟ واحد.. اثنين.. ثلاثة..يـ...........ـه لمّا ينقطع النفس. ...........ووزّع يا خلف..وعبء وانطر. وراقب الفلاحين والفوّادات(41) ولاقطات السنابل والصبية الذين يشوّطون سنابل القمح. وآنذاك ينهد رباطه، مثل ثور عمه حرب. احترامه بقرنيه. الناس تعرفه ثور لكن تحترم قرنيه. * * * وتململ شمران متأوها، ثم خطرت له زوجه ( كرهبايه ) بثوبها الكشميري، والأزرار الذهبي المتلألئ على ضوء (اللوكس)، متكاسلا على صدرها. ومن فوقه يشمخ عنقها. كل مـا فيها يبتسم رغم ما حدث بين والدها وأخيه وأخذها من بين يديه عنوة : تلك العينـان والخدان والفم، وتلك الأسنان اللؤلئية. الصناع و( الديرم ) ( 42)، والشعر الحريري، وذلك النضح من العطر الشذي.. والحفيف الأخرس. وظل يتقلّب يميناً وشمالاً وينبطح على ظهره وتأوّه. إنه لايكاد يحصل عليها حتى في النهار. : هل كان شمران محقا ًفي ابتعاده عن بنات القرية ؟ قد لا يمتلك الرأي الواضح، حسب انطباعه، وقد يكون نعم لاعتقاده انه لا يليق أن يتزوج بابنة فلاح. فهم حسب العرف الذي يبنون أهله أحكامهم عليه، أن يترفعوا عن هذا المستوى. أمّا كونه قد عزف عن بناء علاقة مع أية ريفية. شبيهة بتلك التي استفز إحساسه.. ما حدث للفتاة التي مال قلبه لها، فوجدها بين يدي أخيه. إنه لا يرجح إلاّ رأي أخيه لكونه أكثر رجاحة من عقله. مثل هذه وكذلك الأخريات، يمكن، بل كان يجب أن يتم بناء علاقة لقضاء الوقت ليس غير. إن ما تكون جديرة به، هي أمثال زوجه ( كرهبايه). وواحدة حضرية كزوج أخيه. التي تفرض طريقة التعامل معها على أساس أنها من منشأ أفضل بمقاييس عديدة، من حيث الملبس. وتربية الأطفال. وطريقة تعاملها مع زوجها، وحسن صنع طعامه. واقتراب زوجها بموجب زواجه منها لتطعيم نسله من بنين وبنات، ينصهرون بحياة المدينة المتطورة. والحافلة بالحدائق والأسواق والشوارع المبلطة والكهرباء، والمدارس وأشياء كثيرة. وفي مقدمة كل ذلك إنتظاره عند غيابه عنها وإظهار اشتياقها إليه بترحيبها الحار.إنه يريد زوجة من هذا القبيل ـ تتفاعل مع لهفته إليها كأنه كان في طرف العالم وقَتَلَها الشوق إليه. وحين ظل يقارن بين زوج أخيه وزوجه، لاحظ أن الأفضلية من حيث الحُسْن لزوجه. وهي قادرة على أن ترتقي، وربما تتفوّق على الحضرية، التي لا تمتلك أفضلية على زوجه، إلاّ بضخامة الجسد المترهل من السمنة. ونصاعة أطرافها. وقص شعرها القصير، كمـا يسمى في المدينة على ( الموده) (43) ثم قدرتها على الخياطة وانحدارها المدني. إنه يرجوأن تتهيّأ له الفرصة ليقربها إلى تلك الزوجة التي تترفع على زوجات أخيه. وبالتأكيد سيؤنسها رقة زوجه وحسنها. وربما سترافقها إلى المدينة لقضاء بعض الوقت. سيّما وان صفية الحضرية تميل إليه وتُطْعمُه. وتاتي له بحاجيات عند عودتها من المدينة وكذلك لزوجه. إنه لم يجد ما يندم من أجله بزواجه منها. بل أن هذا الزواج عمق حبه وإخلاصه لأخيه الحبيب. فلولاه لما توفرت له الفرصة للحصول على هذه اللقطة الثمينة. وإن كان هذا الذي يقال، لم يكن بديلاً عن حبه لزوجه. لكن بالتاكيد سيؤول كل ما يملك عمه بريسم لزوجه. ومن الواضح. إن أخاه كان يشغله مثل هذا الأمر : على إن شمران: سيكون كل شيء في متناول يده. ولم يبخل بشيء من الآثاث التي بهرته هو. فشمران لم تستحوذ غرفته قبل زواجه على ( الكنتور) (44) و( الـﭽرباية )(45) والأفرشـة الوثيـرة و( اللوكس ) والراديوالذي هوشبيه بالذي تمتلكه زوج أخيه الحضرية. : ـ أي بلاء هذه البيادر ؟ أي غضب انصبّ على رأسي؟ فارت روحي خلف...... - ;عونك محفوظ.............. - ; أروح أخطف لي خطفة وأرجع.. -:عونك محفوظ.... منذ وقت غير يسير، كان القمر قد جنح عميقاً باتجاه النصف الآخر من السماء إنه ماض رويداً رويداً إلى الأفول... لماذا تزداد نجمة الصباح تألقاً عندما يأفل القمر؟ هل هي على نقيض معه ؟ كانت النجمة المتألقة تطل برأسها كأنها كامنة حتى أُفول القمر، بضيائها المشع على جوانبها فيسترسل مثل خيوط متوهجة كأنها تبتهج لتنفرد بضيائها وسط الظلام الذي بدأ يسود، رآها تتطلع من خلفه وسط سماء أبان جفول نجومها الأخرى، فمضت منذ حين، قسم يرحل وقسم يشع.سماء فسيحة تسبح فيها النجوم الساهرة طيلة الليل، حتى تركن إلى قبائلها لترقد. لا يدركها طارئ إلا...وحكم عليه أن يرحل إلى مخدعه. كل ما في السماء.. إنما يرتبط بحجم محسوب له نصيب من الحقوق. وشمران ترهقه الاضاءات. اعتقادا منه أنها تفضح تسلله في سطوه إلى مخدعه حاله حال القمر الذي تابع مضيه إلى الأفول باتجاه أطراف الطريق حيث تسير خطوات كحيلان.. جنباً إلى جنب مع خطوات كحيلان كأنهما يسيران معاً بإتجاه الإفول. ربط حصانه في المربط القريب إلى المضيف مشى محاذياً الجهة الخلفية من الدار، حـيث تنزوي غرفته لائذة عن الغرف الأخرى. وتزدحم ألأخريات لائذة بعضها ببعض. كان قد وصل إلى هناك متلصصا مخافة أن يراه احد، وخجلا من أن يراه، وقد جاء من اجل زوجه،ومر من الباب المؤدي إلى غرفته، حذاء الجهة التي انتصبت فيها حجرة خلف.ما زال الضوء الخافت ينبعث من غرفتها.أراد مفاجأتها وجها لوجه.بزينتها.بحلاوتها.س بجسدها الذي ينفح عطرا. الذي هوملك صرف له ـ خفق قلبه ـ بذراعيها ودفئها، وفراشها الحضري الوثير. عامل الباب بهدوء لعله ينفتح. هل تتوقع مجيئه ؟ ما هذا؟ لا زالت يقظة، خربش الباب بأظافره. خربش مرة ثانية، سمع صوتها : -ـ بشت...بشت.... هل يموء..........؟ :- ميو...ميو - بشت....بشت خربش مرة أخرى : - ميو............ميو..........ميو تمنّى أن يأخذها بين ذراعيه وأن يتلقفها..سمع خطوات من الداخل،تماسك أن لا يضحك : -ـ ميو............. خربش.. اقتربت الخطوات، خفق قلبه 0تهيأ لاحتضانها.ندت عنها صيحة خافته مرعوبة، وأوصدت الباب بذعر. لكن شمران اقتحم الباب ليطوقها.بينما هي تلوذ وتخفي وجهها. سمع شمران خطوات تأتي من فوق السرير، ويفاجأ بأخيه حرب يردد : ـ ها....ها.. مِن هو، مِن هو..ها.. أنت؟ فرد على حرب دون أرادته: ـ أنا ؟! أجاب دون وعي. دون إرادة. ظلت عينا حرب تُمعن النظر إلى وجه أخيه الذي بدا منكمشاً مصعوقاً غابت عنه ملامح الحياة، ونظرات ( حرب ) الوقحة تركز علـى الوجه المسلوب الإرادة. : ـ كيف غادرت مكانك؟ ؟ وصمت...... لم يتجرأ شمران لكي يقول شيئاً حتى في مواقف أكثر ملائمة من هذه. أن يجد الكلمة المناسبة التي يقولها. لقد كان دائما يخشاه ويهابه. وحرب يعرف ذلك جيداً. لا أحد يتجرأ أن يفتح فمه من الرجال إلاّ بأمر منه. ولذلك لم يمتلك شمران الجرأة أن ينسحب ومن ثَمَّ إلى أين؟ لا يدري. كان في تكوينه الذي ألفه مع أخيه ينتظر أمر الانصراف منه دون أن يقاد من طرف آخر. بيد أن ( حرب ) صفع شمران بحلٍ لم يتوقعه، ولم يتهيأ له حين قال: أنا قبل زواجك كنت أُحاول إقناع بريسم ريثما أعثر على العذر الذي أأخذ ( كرهباية) زوجة لي.. أخيراً أنت ؟؟؟. وما دمت قد اطّلعت على ما توضح لك، لازم تنفصل عنها ولا يحق لك أن تدخل هنا. وظل ينتظر منه أن ينصرف من أمامه. ظل ( حرب ) يتمعن كأنه قد ضاق ذرعاً بوقوفه الذي استفزه. شمران دائـخ......... راقبت سعده خِفْيَةًً، بقلب متصاعد الوجيف. قلب تتصاعد ضرباته إلى حد الترقوة، ذلك الانسحاب المذل لشمران. لم تألف تلك الخطوات البائسة المتهالكة، حيث تقوده نحوالباب الخلفي، المؤدي إلى فناء الربعة، إلى مربط جواده. قدماه يخطوان دون إرادة. شيء ما، غير واضح يقودُه إلى مربط حصانه. ظل كحيلان يزفر ويكاد أن يفلت من رباطه. وتنقلت قوائمُه وارتعد كامل جسده بعنف. وطأطأ برأسه وإذناه يكادان أن ينطبق طرفاهما وينحنيان بحدة إلى أمام. ورأسُه يراقب كيف تواصل قائمتُه اليمنى نبش الأرض كأنها تبحث عن فجوة تكفي لجسد شمران ليكون مكانه البديل عن غرفته المطرود منها. ربما إلى ملاذ فسيح. هوالذي يحتضنه ويخبئه ويحل هذه العقدة، دون أن يكون له إرادة تأخذ بقياده،غير ذلك الدافع الغامض الذي ظل يدفعه إلى هناك حيث الفناء الذي استكان فيه (كحيلان). استقبله يحمحم. كأنه ينادمه ويستفسر عن أمر له شأن. ثم عندما اقترب منه بدأ الحصان يقترب رويداً بمنخريه لكي يتشمم جبهة شمران. فأطال بمكوث شفتيه ومنخريه يتحسس رأسه ويعودان إلى ناصيته، كما لوكان يعوّض بحميميته عن خسارة لم يتأهل هوأن يتفاداها. لم يتأهل ( كحيلان) أن يجري بكل طاقته لتجاوزها حتى ولوتطلّب ذلك أن يكبووينفق من تحت صهوته. الخسارة جاءت ليس من إخفاقه في المنافسة. ومن قلة جهده. إنما من عامل آخر، كأنه يدركها. بأن فارسه ما عاد يحتفظ بمعنوياته التي تؤهله أن يتحوّل إلى إعصار يطوي الأرض بثقلها. ويمسك بقياد الأحداث الماضية إلى قرار لا يمتلك زمامها ليوقفها عن خذلانه. لكنه غُلب غدراً.استحوذت عليه رزية لم يألف أن تكون هي السبّاقة. إنما هي.. بقدر لا يستهان به من الخيبة التي لا حدود لفداحة خسارتها ولا تعوّض : إلا.. بقرار نازف، قاطع، قاتل، حتى أعماق لُبّ العظم. تبلّد في شمران كل شيْ. ضاعت عليه حتى الكلمات. وكأن البيت والغرفة ليست مأواه. ولم تعد الزوج زوجه. ما الذي فعله معهما حتى يوافيانه بما حدث من وراء ظهره ؟ ولا القرية قريته. كأن الدنيا بكاملها تشهد أن ما وجده بانتظاره كله خيبة : وعلى انه مطرود بلا مروءة ولا إنصاف. أين..؟ أين يذهب ؟ ها هوقد انسحب كالخائب الذليل..إلى الفناء...إلى الربعة، التي فقدت صفاءها في عينيه كما ألفها، أشياء كأنها أشد من الكابوس كانت تقرع في أذنيه.مسحت ما متفق عليه بحكم الولادة من رحم واحد وصلب واحد. أطل رأس رابع كأنه مصاب بصرع... رأس سعده، التي رصدته حين مجيئه وحين انسل مخذولا، مغلوبا. حيث قادته قدماه وسط القرية. نفس اليد التي خربشت، سحبت المسدس، وطنت برأسه، ساخرة كلمة ( بشت....ميو.....ميو..بشت بشت ) ضغطت اليد على الزناد بجبهته دفعة واحدة. أطلقت سعده أنة خافته مروّعة. وخاطبت نفسها بكلمات تداعت متهشمة وسط صدرها المضطرب الأنفاس: - قتل نفسه، عرفتها ؟ قابل أنا حمارة ما أفهم ؟ وارتعدت واضعة كفيها على بطنها.اجتاحها خوف لعين،هزها هّزاً.أحست بالمخاض يكتنف جسدها كله. بعد لأي أنسفح الدم بين ردفيها وتهاوت على الأرض.كان صوتها مسحوقا خائنا، بعد لأي انهمر الصراخ المدوي في أرجاء القرية. حتى الكلاب عوت. والفلاحون يتقاطرون طيلة الليل0وأُطلقت طلقات تنبئ عن حدث جلل. تباطأ خلف حتى مجيء المخبر. قال لسعده وهودامع العينين: -ـ سعده..كأن خلف هوالمقتول... ثم تركها لوحدها وهويردد هذره، حتى وارت بيدها الجنين، والدم يسفح 0 خاطبت نفسها سعده: ـ دفنته. أرجع لجوعي وعراي. وأتسوّل بالمدينة ولا أشوف( حرب ). وأصغت إلى الضجيج النائح. كأن الناس قد اكتشفت محنتها فوق قشرة الربعة. وبأن شمران قد قدم حتى ينتحر. أما لماذا ؟ ( فهذه ساعة شيطانية.. هِهْ...).لكن سعده ذات ( دماغ العبيد) لا تعترف بالساعة الشيطانية، بل هي تمسك ببداية الخيط، المعقود في رحمها. ليس من هذا اليوم.. بل منذ أربعة أشهر.وبأنها تكوّرت ببدايته لتنطوي داخل نهايته، أما ما تكّور عليه بمعيتها...فهذا ما ينبغي أن يدفن معه وأيضاً في داخل نفسها، بل أ ن الصراخ والنواح لا يعطي وقتا للفاجعة: أن تسفر عن وجهها ولتنطوي القرية بجمعها في غمته، وإنها لم تبح بشيء حتى لزوجها. فالمفروض أن يظل وجه ( حرب ) مجللا ( بالحظ والبخت).وأن هي كشفت عن وضاعته، فأنها ستفضح تورطها في هذه الوساخة. وسعدة أصبحت الآن تتكشف لديها تلك الحشـمة الكاذب.والله يعلم كم من الأشياء الوضيعة لم تتعرف عليها، والتي دفنت بطي هذه النهاية التي انطوت لصالح بخت حرب المحظوظ. حتى بما هولا يبدومألوفا. هيمن الحدث بثقله على القرية والقرى المجاور. نواح وصراخ يكتنف الجميع، فيموج فناء القرية المفعمة بالحزن.ولم يزل المعزّون يتوافدون، ويتيه الجميع بدوامة لا تظهر لها بداية ولا نهاية. وبكى العديد من الفلاحين عند قدمي ( حرب ).لكونهم لا يتجرؤون أن يمسّوا كتفه المهيب. فلا يملكون ألاّ الدموع لكي يظهروا احترامهم لعظم المأساة التي وجد نفسه فـي دوامتها.هذا اللطيف الظريف العفيف الشريف. يا ليت سعده بعيدة عن صلب الحكاية هذه،يا ليت حالها مثل حال الآخرين. لا جزء من هذا المشهد المطعم بالإثم الذي يرتدي ثوباً ناصع البياض، لكي تَدلي بسر حرب،الذي يبكون من أجله أكثر من ما يبكون من أجل أخيه المنتحر أكثر من الملابسات التي صيّرت هذا المشهد0هذه واحدة من الأشياء التي يفهمها الناس بالمقلوب. لبرهة.. تطوّح بها ريح صاخبة. أنهد النزف ولف سمعها واحتواه. يتشابك أكثر عويل القرية بنواحها، وكأنها تنزف مع حرب. كأنها تحتضر مع أخيه. أن المحنة ما عادت محنة شمران بقدر ما هي محنة حرب. وكأن القرية وشمران وخلف، قد ختموا ما تم ّ حصده على شكل تجميع البيادر باحتفال مثل هذا. وسعده الجهة الأخرى من المرآة، ظلت تداري احتضارها لوحدها. تنزف مأساتها على نحودم أسودغزير. في الطرف المهمل والحقير من الدار. تداري سعده احتضارها، وما تحسس أحد بمصيبتها، ولم يكتشف أحد أطرافها. فلاذت زوجة شمران منزوية عن هذا العرض بما لم يعلم أحد غير اثنين.كيف بدأ الدور معها وكيف ابتلعتها زلات (حرب ) ؟ كما جرى ابتلاع ما لا يدري الناس عنه شيئا؟ تلك.. أمور كان حرب يمارسها سرا، لائذا خلف تلك العفّة، التي أحاط بها حظه وبخته وأذاب مأساة زواج أخيه وتجرعها دفعة واحدة. قبعت سعده وحيدة تداري احتضارها. شاهد إثبات وحيد على فصول المأساة وامتدادها.. يتهيأ أيضاً للرحيل الذي رسمه لها حرب كما رسمه لأخيه.لا إلى حيث جىء بها، التي أدركت... بأن الفاجعة ستُنسى. وقد تختم بزواج حرب بامرأة أخيه، وقد يكون هذا مجرد استنتاج مريض، بسبب الهذيان، أو( عقلية العبيد ) وتمخضاتها. ولكن الشيء الذي تفهمه بوضوح : أن حظه وبخته قد خدماه حتى في هذه الزلّة الكبيرة. على ضوء جفول الغبش الذي يزيح العتمة ممهداً لصباح قادم لا يمتلك برهاناً يكشف به واقع المأساة، رفعت ثوبها لترقب ذلك النزف المتواصل وهي تقول: ـ دخلت الدار سودّة وجه، تالي ما تالي سودوا كل دنياي، ودنيا موتاي. انحدرت مع الدم كتلة ثقيلة. : ـ ثمانية عشر سنة..........كل عمري ما شفت مثل هذه الفضيحة إلا بهذا المهجوم. كيف قضت الناس كل هذي السنين ؟ أزداد الدم نزفا، وغزر بين ردفيها , وسال عبر الأرض 0انتقلت إلى مكان آخر، أحست بان قوتها تنزف مع الدم. أظلمت الدنيا بعينيها. أرادت أن تخرج لتبحث عن خلف، لكن الدم غزير. وسيمتد خلفها، كأنه يهتف ( هي.......هي.هي أيضا). ردفاها يلتصقان بالدم، فتحتهما ثم أعادتهما إلى وضعهما. : ـ بس..بس....بس كافي.(46) لم يزل الدم ينزف عنيفا، يسيل....يسيل. كأن الدنيا تحولت إلى طوفان من الدم. : خلف لم يظهر أمام فجوة الباب. اقتربت برأسها. لم يأت خلف. طار خلف. مر الوقت ثقيلا. الشمسُ بدأت تعلوولا أحد جاء زمن يهمه أمرها ؟ لا أحد يتحسس وجودها، إلا.. حينما كانت تجري لإنجاز خدماتها آنذاك كانت حاضرة على كل لسان يطلب منها خدمة. حتى خلف ما زال في واجبه الذي عرفه قبل أن يتعرف عليها. :.....ه يا مصيبة ؟ أريد أشوف أمي. أريد أموت خلف.الدنيا سوده بعيني... يمكن هذا الموت. تراخت على الأرض. نظرت إلى الفناء، لا تقدر أن تنهض ( يمكن هوهذا الموت ).مرة أخرى توشح الباب بعتمة ضاربة إلى الضباب. لاح لها خيط الدم يتدفق متعرجا، مخترقا العديد من بيوت القرية. تمّنت أن تموت بعيدا عن الدار المشؤوم. بل بعيدا عن القرية المستباحة. رفرفت روحها بعيدا.. بعيدا.. بعيدا. لاح لها مثل الشبح : أحيانا ( حرب) يسحبها إلى ملاذه. وأحيانا خلف ينحني ليدخل باب الحجرة زاحفا نحوه : ـ خلف هذا؟..........ه. هذا خلف لوأنا دايخه ؟ لم يجب أحد، امتلأت أذناها بالصفير زلاحت لها طفولتها جرعة حنظل كبيرة.عاشت بلا ماض. قضت حياتها متسولة، تقود أباها الضرير. بعد مماته.. قادت أمها شبه الضريرة. تقودها إلى بيوت أهل الخير فتحصل على قدر ما يسكت جوعها. ولم يأكلا قطعا أكلا اصيلا.فالطبيخ مدافا بالمرق.. كأي فضلات معافة. والرغيف لا بد أن يكون مثلوماً. ورغم إن زواجها كلف أمها غالياً. لكنها سعدت حين قدم حرب وزوجها خلف فقالت الأم : ـ ألآن أموت مرتاحة، ما دامت سعده تشبع خبز وتخلّص شتاءها بثوب يستر عورتها. لبست سعده الثوب.لكنه لم يستر عورتها، بل تدلّت من حبل بالمقلوب وتعرت تماما ( ربي كما خلقتني ). لوتدري أمها للطمت بالرماد وشقت ثوبها من الطول إلى الطول. رددت كأنها تخاطب نفسها: -ـ يا الله........أريد أمي. ثم كررت: ـ............ه , خلف أين أنت ؟ لفظت صوتها كما لوانه جاء من إبهام قدمها 0دفعت كتلة الدم المتخثرة تحتها. وأمسكت يدها بتراب مداف بالدم. كانت قبضتها رخوة، قبضت على كتلة لزجة ورخوة أيضا : هذا نصيبها من هذه الدنيا، من متسولة إلى مسلوبة عرض.إلى ضحية منسية، تموت لوحدهـا لاتملك غير صمٍّ من التراب المداف بالدم. تحركت شفتاها فتهالك صوتها واهنا لا يكاد يسمع : -ـ خلف تطلعت عيناها إلى فناء الدار، مثل زجاجتين.؟تمنت لوإن خلف جاء. لكن صورة قديمة قد تجسدت إمامها كأنها تواسيها على محنتها.فتجسدت أمامها كالحقيقة..صورة أمها وهي تتأوّه ز كانت قدمها مشوية على نحومريع. أرادت المسكينة أن تخرج من باب الكوخ فاتجهت للزاوية وغلّت قدمها بالنار، فهربت صوب الجدار. لكنها ارتدت على عقبيها واطئة النار مرة أخرى. مسكينة. مثل الطيف يمثل أمام عيني سعده: ـ سوده عليَّ يا والده. وبقيت عيناها نصف المغمضتين الفاقدتين لماء الحياة يتطلعان بشوق. تَطْرُفْ عيناها، تطرفان........ تفقد بصرها.خيل إليها : إن شمران إلى جانبها ويستنجد بها : ـ يا لله سعده...دلّيني اين أروح. كل ما أفكر بحل ما أشوف. أي حل ؟ اجتاحتهما عاصفة هوجاء.فحلقا مثل ريشتين، حاولا أن يتشبثا بشيء، فأمسكا بعضهما ببعض والتصقا مثل توأمين. كان شمران يبكي مثل طفل مرعوب..أكتنفها الصمت ورددت بصوت واهن : ـ أنت خائف شمران ؟ :ـ يا ناس.......يا أهل الحميّة. وبكى............. قالت سعده بصوتها الواهن : - سوده عليّ شمران.. مِنْ مَن تخاف ؟ يعني أنا معك قابل أنت لوحدك؟ مسحت دمه الذي ما برح ينزف من جبهته. : ـ سعده........راح تتدمرين. :ـ ما يهم.. أنا هم مدمره من زمان........بس لا تِنْحَبْ. قال : ـ ما أنْحَبْ على دنياي،من ألم راسي. هذي الشغلة ما حاطها براسي. سعده... وضعت رأسه بين كفيها : -ـ إرتا حيت...........؟ قال : ـ أي سعده.......اسمع صوت حرب ينْحَب.... قالت : ـ ما يفيد.......الذي فعل هذي........ما يسوّي دموع ؟ يسوّي... قال: ـ خلّيني أشوف........ قالت: ـ تشوف مَنْ ؟............. قال : ـ الناس تنحب... قالت : ـ شفت........؟ بس الله يعلم على مَنْ ذَبّوْا اللوم... أخفى رأسه بين ذراعيها والتصقا معا. كانا يحلّقان.... قالت سعده : - ما صرت أحسن.........؟ قال : - أحسن.......... لِمَنْ صاعدين ؟ (47) قالت: -للسما ء........ قال: ـ موبعيد.......؟(48) قالت: - لا........ قال : ـ..........خ. تعبان سعده.... فََرِِدْ مَرَّه تعبان... ظلت تمسح على شعر رأسه.. قال : - أين تنظرين.....؟ قالت بصوتها الواهن : - للسماء....... ظل يبكي بصمت... قالت : - بَعَدَكْ...؟ قال : - سعده هذي تاليها...؟ قالت : - إي شمران هذي هّي.... قال : -لوراجعه للمدينة موأحسن...؟
قالت : - أنا سخله سوده , ما عندي أهل...هي أم وعمية.... قال: -مكرّمة سعد ة.........مكرّمة.. قالت : - غير أنا عبده..؟ :.......... قالت : - أي....وأخوك حر......ما شفت...؟ قال: ـ شفت.....لفّيني سعده......انا تعبان.. بدأ مستكيناً إلى حضنها وسقط رأسه على صدره. هدأ جسده كأنه ينام. فاحتوته بين ذراعيها. كانت هي مشدودة إلى السماء وعيناها يرمشان ببطء، كأن الكرى يهيمن عليهما ز رأت النجوم تنسل بشعاعهاز رأت صبية وصبايا يسكبون على أجسادهم من ذلك النور السماوي زواصلت تحليقها، وأحست : إن الق النجوم يتسلل إلى روحها زويثقل جفونها. بحر السماء على مسافة هينة، والنجوم تحدق بصمت وهما .. يوشكان .. أن يصلا. تباطأت عينا سعده كأن النعاس خالطهما فاستكانتا شاخصتين منشدتين...إلى ذلك الصفاء الفضائي لا يرمشان. وتلك الخيمة السماوية تغدق عليهما باستكانة عميقة. كل شيء يستدعي .. أن لا تغمض عينيها وان يبقيا على اتساعهما يحملقان أبداً بكبد السماء... ----------------------------- معاني الكلمات ـ 1-الكوز إناء فخاري يملأ بالماء للشرب 2- - لمبة قنينة تملأ بالنفط للإضاءة. 3- طين خاوا نوع من الطين يميل إلى اللون الفستقي تستعمله القرويات لتنظيف الشعر. 4- غياب الثريا مجموعة نجوم قصية عند غيابها في نيسان ومايس،يؤدي إلى تقلبات الطقس. 5– السعد حبيبات درنية تخرج من تحت التراب القريب من الماء ذات رائحة زكية تؤكل فتترك رائحة طيبة في الفم. 6- كمون، يانسون،كزبرة، جويفه مواد نباتية تغلى على النور وتعطى للطفل. 7 – مل قمل. 7 – عيطة صراخ 8- الحوش البيت الكبير 9 - جريّة نوع من السمك الديء النوعية. 10 – يفضي حاجته يتغوط 11– طلب إبريق لقضاء حاجته الشيخ والضيف عندما يريد قضاء حاجته قي الخلاء هناك رجل وطفل يملأ الابريق بالماء ويتبعه به. 12 – نوروز عيد الربيع.وفي العراق يسمى ( الدخول ) 13 – المَحَلبْ والقرنفل نوعان من البذور العطريه تسحق بالهاون وتخلط مع الحناء ليتم التمضخ به. 14 - النشره هي مادة لزجة بُنّيِة الشكل تتكاثف حول القصب المتدلي من سقف الكوخ نتيجة الدخان مما يشعلونه للتدفئة والطبخ داخل الكوخ. تؤخذ هذة المادة وتخلط مع الماء والبيض وتُغلى لكي يتحول لونه إلى اللون البُنّي، 15 – تف عالى الحايط تشتم القرويات رمزاً مقدساً. فبدل تسميته تقول الحائط. 16- أبوالڴبان حشرة من الخنافس الملونة.يشرع أطفال القرويين بثقب مؤخرته بعود شوك ويحركونه فيرف بجنحيه من الألم ويعتقدون أنه يرقص. فيرددون ( شلون امك ترقص بالعيد). 17 – تكركر تضحك 18– ترجية قرط أبڴع ثوب فيه بقع بيضاء وسوداءد 19 – حب الماء إناء فخاري لملئه بالماء للشري 20 – ناڴوط إناء فخاري صغير يوضع تحت الحب لتجميع نقاط الماء المتساقطة من الحب للشرب وصناعة الشاي 21 – الحندقوق نبات حرّيف من فصيلة الحلباء،في وسط ورقته خط أحمر وله رائحة زكية 22– اللب القلب 23- صفه تصفيق 24 – نيرة ليرة عملة ذهبية عثمانية تستخدم للقلائد 25 – أخواخته ينتخي الشجاع فيقول : أنا أخوفلانه.ومن هنا جاءت. 26- مطب مزمار 27 – جوبية رقصة شعبية 28 - يكنكن أي أن العبد يكون عصبياً. ويتوضح أنها مأخوذة من كلمةإنتسابه إلى ( كينبا ) و( غانا) باعتباره زنجي 29– هلهلي يعئوره يا عوراء. وبسبب أعجمية الزنوج، يتظاهر خلف بعدم قدرته على لفظ العين فعتقادهإنها لهجة خاصة بالعبيد.وربما مأخوذة من عوراء تتمتع بصوت جهوري. 30 – هجع اغنية شعبية 31- چان كان 32 – وبلي نوع من المسدسات 33 - صنّاجة قرص مقعر من الرنس يربط بخيط لقرصين ميقابلين واحد بالإبهام والثاني بالسبّابة ويضربان واحد بالآخر لإصدار إيقاع جميل 34 - كاولية غجرية وربما كانت الكلمة مأخوذة من انتسابهم لمدينة (كابل). 35 – مـﮒوار صولجان 36 - كرّه نعجة سوداء مجعدة الصوف 37 – آخ تف إظها التقززز واالإحتقار 38 –شليف كيس كبير للصوف والتبن 39 = ليش لماذا 40 - سخله العننز ة 41- ب..........ط عفاط 42 - الدديرم لحاء خشب يبلل باللعاب لجلي الاسنان وصبغ الشفتين. 43 -– موده موديل 44 – كنتور ديلاب كبير من الخشب 45 – جربايه سرير 46 – بس إسكت.. كفى 47 – موأليس كذلك؟
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |