تحقيقات

التواصل والتفاهم بين اجيال الامس واجيال اليوم

تحقيق: لقاء الربيعي (بنت الرافدين) / بابل

 

كثيرا ما يوجه اللوم للجيل الحاضر من الشباب ويتهم بالعناد والغرور وعدم التماسك، وفقدان الانتماء، والإحساس باللا مبالاة.. وكثيرا ما تنطبق هذه الأوصاف التي يطلقها حكماء الجيل السابق على شباب الجيل اللاحق.. ونجد هذه الصيحات تتكرر وتتجدد بتجدد الأجيال..

اللافت للنظر ان الكثيرين من شباب هذا الجيل يعاني من الاغتراب وفقد القدوة. وهي ظاهرة خطيرة تستدعي الدراسة في ضوء علاقات الأجيال، وما يسفر عنها من تواصل أو صراع ... ولهذا نطرح هذه القضية للخبراء والمتخصصين من علماء النفس والاجتماع .. الذين أجمعوا على أن الفروق بين الأجيال أمر لا يحتاج إلى جدال ، كما أن الصراع بين الأجيال يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع ذي القسمات الواضحة ، كما أن الصفات المجتمعية من عادات وتقاليد وقيم ومعتقدات، من سماتها الانتقال بين الأجيال المختلفة في المجتمع الواحد إذا ما ظل في حالة استاتيكية وعن هذا الموضوع اجرينا هذا التحقيق :

حدثنا الدكتور في علم الاجتماع (محمد مهدي ) قائلا:

ان تعاقب الأجيال أمر طبيعي في مسيرة الزمن و إن الأجيال تتتالي، والسلف يورث الخلف عاداته وتقاليده ومعتقداته وقيمه.يزيد عليها الخلف ثم يورثها بدوره لمن يصيرون خلفا له.

هكذا تورث الأجيال بعضها البعض ثقافة المجتمع ، وكل ما هو سائد من الماديات والمعنويات .. والمفروض أن الجيل السابق أكثر حكمة من الجيل اللاحق ، وربما أكثر علما، ولكن في بعض الأجيال يأتي في جيل الخلف من هم أعظم شأنا وأوفر علما، وأسعد حظا من جيل السلف، وذلك بطبيعة الحال يتوقف على ما يناله كل من جيلي السلف والخلف من فرص الحياة.

يستطرد دكتور \"الساعاتي\" قائلا: إنه ما قورن جيل السلف بجيل الخلف فإن بعض المفكرين يجدون أن الجيل السابق أكثر حكمة بينما أبناؤهم أشد قوة ولذلك قال الحكيم.

\"لو كان للشيوخ قوة، ولو كان للشباب معرفة\" .

وكل جيل ينظر للأيام السابقة عليه على أنها أسعد حالا من حاضره، والواقع أنه في كثير من الأحيان فإن أيام العصر الحاضر تكون أفضل بكثير من أيام العصر الماضي وذلك نظرا لانتشار التعليم المعرفة، وكثرة الخبرات، والكشوف والمخترعات المتعددة .

أما عن العلاقات بين الأجيال فيقول د. (فاضل عباس دكتوراة في الفلسفة والاجتماع : في الماضي كان الجيل الصغير يحترم الأكبر، أما الآن فالملاحظ أن هذا الاحترام بدا يختفي، فقلما نجد أبناء يحترمون آباءهم كما كان في سالف الأيام، وبالتالي فالوضع نفسه انعكس على العلاقات في المدرسة بين الطلاب وأساتذتهم ورحم الله من قال:

قم للمعلم وفه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا هذا ما نراه أيضا في علاقة الأبناء بالأجداد. فالملاحظ أن التجاهل متبادل بينهم في الغالب ومع الأسف نجد الجيل الكبير مشغولا بقضاياه المتعددة ونلحظ إهماله الشديد للجيل الصغير الناشئ.

لا ينطبق هذا على علاقة الأجداد بالأحفاد فقط ولكن هو في الغالب نمط العلاقة السائدة بين الوالدين والأبناء. وهم يتعللون بانشغالهم بالسعي وراء الرزق لكي يوفروا لأبنائهم المعيشة المتوسطة ولا أقول المعيشة الكريمة!!

 

جو ديمقراطي ولا حرمان

الدكتورفاضل جد لثلاثة أحفاد ويتحدث عن تجربته الشخصية مع أبنائه وأحفاده \"أي جيلين لاحقين\" يقول:.. طريقتي في تربية أبنائي ثم أحفادي لم تختلف كثيرا، فهناك واجب حتمي علي تجاههم وهو أن أوفر لهم المعلومات وسبل المعرفة، كما أن جو العلاقات بيننا \"الأجيال الثلاثة\" هو جو ديمقراطي، النقاش هو الأساس في كل قرار والحوار المغلف بالمحبة، كما أنني أجزل الثقة فيهم بحيث تسود بيننا المحبة، فلا يفكر أحد منا أن يكون السبب في أي ضيق لأي فرد من العائلة وهذا ما يجب أن يسود بين الأجيال..

كما يجب ألا نلجأ إلى التخويف في توجيه الأبناء فاستخدام القوة في تأديب الطفل وفرض الانضباط عليه وسيلة غير ناجحة وتأتي بنتائج عكسية.. وهو أسلوب يمكن أن يولد \"فردا\" خائفا يغالي في احترام المحيطين به أو على العكس تماما تنتج فردا دائم الثورة والاعتراض، كاذبا ومستعدا للمقاومة بأي شكل من الأشكال. وفي كلتا الحالتين لن يكون لدى الطفل شعور طبيعي نابع من داخله يدفعه لأن يسلك سلوكا مهذبا وأن يتعاون مع المحيطين به.

* كما أنني مع أبنائي أحاول دائما ألا أشعرهم بأي حرمان، وإذا ما تجاوزت طلباتهم استطاعتي فإنني أوضح لهم الموقف بهدوء تام.. كما أقوم بواجبي خير قيام كي يقوم كل منهم بواجبه..

ولكن ما ألاحظه في أحفادي هو اتساع اهتماماتهم أكثر من أبنائي حين كانوا في سنهم. يمثل أحفادي جيل سرعة الاتصالات، كما أن رقعة الصداقة بين الشباب اتسعت أكثر من الجبل السابق، وهنا أنا أتعامل مع أحفادي بصداقة وحب وأرحب دائما بوجود أصدقائهم بيننا \"من الجنسين\" وهذا كي تصبح الرقابة غير ملموسة ولا محسوسة للجيل الصغير.. ونحن عائلة تسود الصراحة المطلقة بين أفرادها من الأجيال الثلاثة.

على سبيل المثال كل منا يصارح الآخر بوقت ومكان خروجه وموعد عودته وخط سيره ، ولكن بشكل غير ديكتاتوري. من هنا نشأت ونمت بيننا المصالح والخدمات المتبادلة.

 

اختلاف الإيقاع

ولعلم النفس رأي آخر يقدمه لنا الأستاذ الدكتور عبد المنعم أستاذ الصحة النفسية يقول.. ما دامت هناك أجيال فإيقاع الحياة هو المختلف، وقد كان هذا الإيقاع قديما بطيئا لدرجة أن عدة أجيال كانت تشترك في كل شيء، المعلومات والأنشطة إلخ. وهذا ما يجسده لنا عهد مثل عهد رمسيس الثاني، فعندما يكون الإيقاع بطيئا حينئذ يتم التواصل بين الأجيال في سهولة ويسر، أما سرعة الإيقاع وهي ما يجسده القرن العشرون فتجعل الفروق بين الأجيال كبيرة. .

فمثلا في الوقت الحالي، انعكس كم التقدم الهائل على القيم السائدة نتيجة صعوبة التواصل.. لذلك فالأمر يتطلب، نوعا من الحكمة، وما يحدث حاليا من صيغة صحية لتعايش الأجيال هو تبادل الاعتماد بحيث لا يعتمد جيل على نفسه فقط، فالجيل القديم أي \"جيل الأجداد\" يقدم الحكمة، والجيل المتوسط أي \"جيل الآباء\" يقدم العمل، والجيل الجديد \"الأبناء\" يقدم التكنولوجيا.. هنا يحدث النجاح بدل الفجوة والتضارب والصراع. ذلك لأن لكل جيل قيما وسلبيات.

فمن قيم الأجيال القديمة المثابرة والصدق مع النفس والإحساس بقيمة العمل.. بينما الإيجابية والطموح وإطلاق الخيال الحر أو الشطح وراء الأحلام من سمات الأجيال الجديدة. هذا في مقابل الجمود والاستكانة والتقليدية التي يغرق فيها الجيل القديم. وتعتبر من السلبيات. بينما الجيل الجديد أكثر عدوانية وخيالية..

ولكي يتم هذا التفاعل يجب أن تجد هذه الأجيال ميادين للعمل المشترك.

أما الصيغة التي يقترحها د. عبد المنعم لإعادة التواصل المفقود بين الأجيال فهي القرب الجغرافي أو القرب العاطفي مع الانفصال الجسدي كنظام الحارة قديما حيث ينفصل الزوجان في السكن عن الأبوين ولكن يسكنان بالقرب منهما.

والشكل الثاني نجده في النوادي وبيوت المسنين. فحيثما يجتمع الناس يتواصل الحوار ويحدث التقارب، والتواصل هو أحدي دعوات الصحة النفسية لجميع الأعمار، وبالطبع كل جيل يميل لإثبات وجوده. ولكن سرعة تقدم المجتمع هي التي يحدث معها العزل الإجباري، أي أن العزلة تأتي مع تصميم وتحديث المجتمع الحديث الذي ينتفي فيه وضع أي اعتبارات لوجود الكبار \"الأجداد\". ونحن ننادي بحفظ اعتبار وحقوق الكبار\"المسنين\" عند إنشاء أي مجتمع حديث سواء في وسائل المواصلات أو تصميم مطالع ومنازل أرصفة الشوارع أو في المكتبات العامة إلخ، وذلك حتى يتواصل جيل الشيوخ مع جيل الشباب وتسود اللياقة النفسية، فالعزلة تشعر الفرد بالاغتراب وهذا هو بداية الاضطراب النفسي سواء الاتجاه الاكتئابي أو الفصامي أو اللجوء للمخدرات كوسيلة هروبية أو دفاعية.

 

المساندة العاطفية

وعن الفائدة المرجوة من التواصل بين جيلي الأحفاد والأجداد يقول د.عبد المنعم: فضلا عن نقل الخبرة العقلية هناك المساندة العاطفية التي يبثها الأجداد لأحفادهم الأطفال أو الشباب والتي تجعل منهم الملاذ بالنسبة للطفل عندما يفتقد أبويه أو عندما يتعذر التفاهم بينهم خاصة عندما يكون المسنون من الأجداد لديهم القدرة على العطاء وفي صحة جيدة فهم يفضلون أن يقوموا بدور الحضانة بالنسبة لأحفادهم.. وهذا منطقي إذا ما قلنا إن الصغار في مرحلة التكوين النفسي والتأمين العمري بينما \"الجد\" قد أمن مستقبله ويجب أن يذهب مجهوده للعطاء.

كما أن هذا من شأنه أن يجعل هناك حوارا دائما بين الأجيال وهذا من متطلبات ومصلحة المجتمع.

رأي آخر في علاقة الأجيال يطرحه الأستاذ علي جواد باحث اجتماعي من منظور الصراع بين الأجيال فيقول إن هذا الموضوع يتردد في الأدبيات الغربية عادة ولم يتردد إلا حديثا في بعض الأدبيات العربية ولعل السبب في ذلك أن الغرب قد تحددت قسماته طبقيا، وحتى بين الفئات العمرية، بينما في العالم العربي لا تزال الأمور غائمة..

وقد كانت للمجتمع العربي طبيعة استاتيكية مستقرة لا تتغير سريعا ولا تتغير كثيرا وكانت أطر التنشئة العائلية المغلفة بالثقافة الدينية التقليدية تسمح بالثبات بين الأجيال لا بالصراع، ولم تكن هناك فروق ظاهرة من جيل إلى آخر، واستمرت الأوضاع على هذا النحو حتى أوائل هذا القرن. بيد أن التغيرات التي حدثت على الخارطة العربية عقب الحرب العالمية الثانية تحديدا هي تغيرات فارقة، منها على سبيل المثال..

سعي الأقطار العربية نحو الاستقلال وتحقيقه إما بالكفاح المسلح أو بالمفاوضات أي بمعنى آخر، تشكلت صورة وطنية في هذه الأقطار العربية.

زرع الكيان الصهيوني الاستيطاني في المنطقة العربية بما أدى إلى تداعيات كثيرة لا نزال نعاني منها حتى اليوم.

ظهور النفط على نحو غير مسبوق في التاريخ في بعض الأقطار العربية وهذه الأقطار النفطية قليلة السكان بينما الأقطار العربية الأخرى كثافتها السكانية مرتفعة.. الأمر الذي قسم على نحوه الأقطار العربية إلى أقطار غنية، كثافة السكان بها منخفضة، وأخرى فقيرة كثافة السكان بها مرتفعة مما أدى إلى هجرة واسعة إلى الأقطار النفطية اتسمت بعدم التخطيط، كما أن للنفط آثارا جانبية كثيرة منها ترسيخ الميل المحموم إلى الاستهلاك وظهور التعالي في صفوف كما أن الثورة في عالم الاتصال والمواصلات جعلت العرب في مقارنة بين أحوالهم من جهة وأحوال العالم المتقدم من جهة أخرى نتيجة للإهمال الطويل للريف والبوادي فإن هجرة واسعة غير مخططة قد جرت من الريف والبوادي إلى المدن العربية وهي غير مستعدة بمرافقها لاستقبال هذه الهجرات. الأمر الذي ترتب عليه ترهل المدينة العربية وازدياد مشاكلها وإفقار الريف العربي من العناصر الفلاحية.

كل هذه الأسباب جعلت الصراع حتميا لا بين الأجيال فحسب، بل بين الطبقات أيضا، بل نزعم أن الصراع الطبقي أشد حيرة ولو أنه يقاوم مقاومة شديدة، أما الصراع بين الأجيال فقد خرج عن دائرة الرقابة الأسرية وخرج عن دائرة التوجيه في المدرسة، ونزعم أن الأسرة العربية قد اعتراها تفكك غريب خاصة بعد إدخال التليفزيون والفيديو، فكل فرد من أفراد الأسرة في واديه أيا كان الجيل الذي ينتمي إليه، وهذا في حد ذاته أمر بالغ الخطورة، إذ إن الخلافات - سواء التي ترجع إلى الفروق العمرية أو إلى الأجيال أو حتى الخلافات بين أفراد الجيل الواحد - لم تعد تناقش كما كانت في الماضي، وإذا نوقشت فهي لا تناقش في أحضان الأسرة، بل قد تناقش في الشلة والمقاهي والحانات.

 

هل تفكك عقد الأسرة؟

ونزعم أن عقد الأسرة العربية قد تفكك، ومن هنا فلا نعجب من انتشار وتعاطي المخدرات وإدمانها بشكل غير مسبوق. كما نزعم أن المرض العقلي والنفسي أكثر انتشارا مما نتصوره، ومن هنا فإن المسالة لا تغدو فقط في إطار الصراع التقليدي بين الأجيال في الأسرة العربية المعاصرة، بل إن الأسرة نفسها تعاني.. فإذا أضفنا إلى ذلك العوامل الاقتصادية والإسكانية المتردية في بعض الأقطار العربية، تضاعفت قتامة الصورة ولذلك فإن استعارة التفسيرات التقليدية من الغرب لا تصلح لتفسير الظواهر في مجتمعاتنا العربية.

ومن ناحية أخرى فإن نمط الأسرة الممتدة التي يحيا بها أكثر من جيل وهن وقل نطاقة، وبدأ يظهر نوع جديد من الأسرة ليست نووية، وليست ممتدة.

وقد حدث ذلك في بعض الأحيان بدافع من نزول المرأة إلى سوق العمل. فهي عندما تسكن مع زوجها وأولادها فهي أسرة نووية بالليل فقط، أما بالنهار فيمكن أن ترسل أطفالها إلى الأم أو الحياة وهنا تبدأ وظائف الأسرة النووية تتم أيضا في العطلات والأعياد.. أما شكل الأسرة الحالي فهو نمط هجين بين النووية والممتدة. وهذا النمط جدير بالدراسة، لأنه قد يؤثر على صراع الأجيال سالبا أو موجبا.

أما بالنسبة للأجيال الجديدة فمن المفترض أن تكون أكثر ثقافة، وأكثر علمية، وأكثر تعقلا من الأجيال القديمة، ولكن ما حدث في العالم العربي عكس ذلك تماما!! ذلك لأن أجيال الآباء والأجداد منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الخمسينيات من هذا القرن كانت تتمتع بسمات معينة منها الحرية النسبية للمثقف وللمفكر وحرية الصحافة، والحرية السياسية، وحرية الاعتقاد، أي نوع من المناخ الليبرالي والدستوري والقانوني. إنما الملاحظ أن الخط البياني للحريات العامة والفكرية قد تقلص منذ عهد الاستقلال الوطني لهذه الأقطار. مما أثر بالتالي على علاقة الأجيال.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain. com