لقاءات

الشاعرعبد الكريم هداد: المتغيرات الجديدة في العراق لن ينجح معها أي شاعر شعبي

شديد القناعة في انتاج ونشر ثقافة الخراب

حاوره: مازن لطيف علي

الشعر الشعبي العراقي مازال رافدا مهماً من روافد الثقافة الشعبية العراقية الشفهية ، ويمتلك من الخصائص القوية والفاعلة في تكوين الثقافة الشعبية من خلال الحياة الإبداعية والمعرفية  لقلة من الشعراء الشعبيين العراقيين، الذين لم تلوثهم براثين النظام الدموي ، حيث اعتكفوا بعيدا عن هوس الانحطاط الصاخب آنذاك.

  فهؤلاء الشعراء لهم اليوم الريادة والسبق في نتاج إبداعي مضيء وراق، كما لهم الأولوية في الرؤية والمضمون والتشكيل الجمالي الملموس ، ومنها تجربة الشاعر المبدع كاظم غيلان في ديوانه الصادر أخيراً " عرس الماي " إضافة لشعراء آخرين ، ممن هم اليوم قادرون على جعل الحراك الإبداعي فاعلاً في الثقافة الشعبية وضمن ضفتي الأصالة والتجديد، هذا ما يؤكده الشاعر العراقي عبد الكريم هداد الذي غادر العرق قسراً عام 1982 ويقيم حالياً في السويد..صدر للشاعر هداد "طفل لم يرم حجرا ـ شعر ـ  دار المنفى ـ السويد  1996" "اخر حزن ـ شعر شعبي ـ ( طبعة خاصة)  السويد  1999" "  جنوبا ... هي تلك المدينة ، تلك الأناشيد ـ شعر ـ  دار ورد ـ دمشق 2001" "مدخل إلى الشعر الشعبي العراقي ـ قراءة في  تاريخ شعب  ـ دراسة ـ السويد 2003"  ملحق ثقافة شعبية حاورت الشاعر عبد الكريم هداد :
*إعتمد النظام السابق على شعراء الشعر الشعبي في الترويج لأفكاره والتطبيل لأمجاده وحروبه وتعظيم  ذات " قائد الضرورة " . فهل أثر ذلك في صورة الشعراء الشعبيين عند الجماهير بعد سقوط النظام ، وهل لديهم من مدى في الانسجام مع العراق الجديد ..؟
ـ بكل تأكيد، هنالك آثار مقرفة في صور بعض شعراء الشعر الشعبي العراقي ، خصوصاً ممن يصر على أن يتقدم المشهد العراقي للشعر الشعبي، ومفتخراً بما اكتسبه من نجومية وأضواء دعاية مهرجانات التطبيل والتصفيق والردح الساهر في التبجيل والتبريك لنظام، كان واضحاً في أيديولوجيته الشوفينية والممارسات التي فتحت الأبواب بكل اتساعها لأعاصير مدمرة كان آخرها  الاحتلال والإرهاب .
وللأسف الشديد هنالك منابر إعلامية عراقية مازالت تصر على الاستمرار في الدعاية لثقافة البعث من خلال إعطاء فرص ذهبية واسعة ومتكررة، لمن تهافتوا على السقوط بإرادتهم فوق مسارح مهرجانات الحروب والمسخ، أولئك الذين جعلوا القصيدة الشعبية العراقية ترتدي اللون الزيتوني كرؤى ثقافية متناغمة ومنهاج البعث العفلقي أو بساطيل دائرة التوجيه السياسي للحروب المدمرة. والكثير من هؤلاء اليوم ، لم يفارقوا أو يحيدوا عن تجربتهم  في  كتابة قصيدة شعبية ذات دلالات انتهازية بكل التفاصيل.
ويبقى لفيف من المتابعين والمهتمين في الثقافة الشعبية العراقية، ينتظرون البحوث والدراسات الموضوعية المتعددة الجوانب لتشخيص ثقافة الخراب ومسخ الذاكرة العراقية،  التي ساهمت في تدمير الأوجه الحضارية للحياة العراقية.
إن الحياة السياسية العراقية القلقة والضبابية في حراكها الاجتماعي اليوم والملتبس في خصائصه الأخلاقية، شجع على غياب سجال فكري ثابت الوضوح في الموقف والرؤية الإنسانية.
وأعتقد أن المتغيرات الجديدة في العراق، لن ينسجم معها أيّ شاعر شعبي كان شديد القناعة في إنتاج ونشر ثقافة الخراب والقمع والحروب والمدح والتأليه، لذا أًصرّ على أن لا يعتذر أمام الشعر والناس !؟؟
* أين يجد الشعر الشعبي ورموزه أنفسهم في ساحة المثقف العراقي والأدباء العراقيين؟
ـ إن الشعر الشعبي العراقي مازال رافدا مهماً من روافد الثقافة الشعبية العراقية الشفهية ، ويمتلك من الخصائص القوية والفاعلة في تكوين الثقافة الشعبية من خلال الحياة الإبداعية والمعرفية  لقلة الشعراء الشعبيين العراقيين، الذين لم تلوثهم براثين النظام الدموي ، حيث اعتكفوا بعيدا عن هوس الانحطاط الصاخب آنذاك. فهؤلاء الشعراء لهم اليوم الريادة والسبق في نتاج إبداعي مضيء وراق، كما لهم الأولوية في الرؤية والمضمون والتشكيل الجمالي الملموس ، ومنها تجربة الشاعر المبدع كاظم غيلان في ديوانه الصادر أخيراً " عرس الماي " إضافة لشعراء آخرين ، ممن هم اليوم قادرون على جعل الحراك الإبداعي فاعلاً في الثقافة الشعبية وضمن ضفتي الأصالة والتجديد، لو توفرت لهم آليات جديدة في تقديم مشاريعهم الإبداعية الجديدة الممتلئة بالمتعة الجمالية والمعرفة الجمالية، والذي هو بالضرورة بعيد كل البعد عن طرائق الانفعال والحماس التعبوي المتوارث من تلك القصائد الاحتفالية، التي فرضها الذوق الثقافي المتراكم خلال العقود السابقة من سلطة الخراب،  والتي ألحَّ على إنتاجها جوقة من نجوم مهرجانات الشعر الغث والرخيص في إعلام مدائح الحروب العدوانية وقائدها.
وما الشعر الشعبي العراقي اليوم إلا قلق الرؤية والموقف والرصد الخجول ، وهو في حالة من التقليد والتشابه والهون، نظراً لغياب السجال المعرفي الداعي لحياة إنسانية حضارية يحتاجها العراق عموماً، و هذا ليس تقليلاً من أهمية بعض الأصوات الشعرية المبدعة.
*هل أستطاع الشعر الشعبي العراقي الارتقاء الى مستوى الحدث واحتواء أعجاب الناس وثقتهم واحترامهم ؟
ـ قبل إرتفاع وتيرة البطش والتعسف الفكري من قبل سلطة الخراب في إلغاء الرأي الآخر ، وقبل إعلان الحرب العراقية - الإيرانية، كان للشعر الشعبي العراقي حضوره الكبير والمؤثر في الحياة العامة ، رغم محاربة السلطات الإعلامية والثقافية له آنذاك ، بسبب كونه ساحة امتثلت فيها الكثير من أوجه الثقافة العراقية المتنوعة ، وكانت تحمل العديد من الدلالات الإبداعية المشرقة في التأثير المعرفي والإنساني  المتنور، وفي الغالب يكون ذا شهادة راصدة للحدث ، وفي أحيان أخرى يكون مختلفاً ومتصادماً مع الرؤية السياسية للأحزاب العراقية. لذا كان يحوز على إعجاب الناس وثقتهم ، وبه يحصل الشاعر على التقدير والاحترام المطلوب ، كما هي تجربة الشاعر مظفر النواب وأبو سرحان وأسماء شعرية عراقية أخرى.
أما اليوم فلم يرتقِ الشاعر الشعبي العراقي بأساليبه الكتابية،  ولم اراه ممتلكاً للخواص الفنية، التي تدفع بهِ نحو التنوع المطلوب في الرؤية واللغة والإيقاع الشعري ضمن معادلة الشكل والمضمون، لذا يؤسفني القول ان غالبية القصائد الشعبية في المنابر الإعلامية، هي ذات إيقاع شعري واحد، يحتم فيها تشابه منظومة اللغة ومفرداتها والرؤية الشعرية  المحركة لدواخل مضمون القصيدة .
*القصيدة الحسينية والشعر الرثائي الديني بعد سقوط النظام ..هل  هو ركوب الموجه أم توجه اضطراري لتجاوز سلبيات الماضي القريب للشعراء الشعبيين؟
ـ القصيدة الحسينية هي إحدى المضامين المهمة في مدرسة الشعر الشعبي العراقي، والتي استلهمت الأشكال الشعرية الشعبية العراقية بكل أنواعها المختلفة،  لكن ما اسمعه اليوم من بعض الشعراء، خاصة من لم تزل صورهم عالقة في الأذهان، وهم يذبحون الشعر أمام الجلاد، فلن تكون قصائدهم إلا عبوراً سريع الخطى على " جسر عفا الله عما سلف" وحين تخلو وقائعها من اعتذار عن جرائمهم الثقافية. والقصيدة الحسينية هنا، هي فرصة شجعت عليها تكوينات سياسية عراقية، لغرض التطبيل كما مضى، وما هي إلا كتابات استعراضية ممتلئة الحشو والترهل، إلى حد الاستنساخ من بعضها البعض، وفي سياق بكائي رخيص متشابه النحيب وخال من الجمالية الإبداعية والرؤية الشعرية والسرد الفني للمضمون ، فهل يعقل لي أن أكتب عن السيدة البطلة زينب " ع" شعراً يصورها امرأة تنوح وتندب ، وهي التي كانت عنوان المرأة الثائرة، حيث أحيتْ ثورة أخيها الإمام الحسين "ع"، حيثما حَلّتْ. لذا أتمنى من هؤلاء أن يقروا  تجارب الشاعر عبدالحسين ابو شبع أو الشاعر رضا الرادود وآخرين، وكيف كانوا يستلهمون ثورة الطف في قصائدهم الحسينية ..!!
*لم تزل نكهة الشعر الشعبي المغنى في سبعينيات القرن العشرين عامرة في النفوس بكلماتها وأنغامها، فيما غابت وتلاشت تلك السمات في الوقت الحالي .. برأيك ماسبب ذلك؟
ـ إن السبب الذي تبحث عنه في إعتقادي هو غياب الروح الإبداعية الصادقة وتنامي الروح الانهزامية و" الانتهازية " لدى عدد من الشعراء ، حيث انحسر دور الشاعر الحقيقي في تجلي البيئة والحياة المحيطة به، وإلتقاط تفاصيلها  القادرة على رفد القصيدة الشعبية . لقد اضمحل التجديد، وأصبحت تجارب مهرجانات الشعر الشعبي التعبوية ضمن مقاييس حروب الطاغية وأعياد ميلاده، هي الرائدة والرائجة، وكان الإلاشتغال فيها هو سباق من المدح الرخيص وتزوير الحقائق أو طمسها علناً. هذا كله جعل  الكتابة الشعرية الشعبية حينها،  والتي تواصلت بتجاربها العلنية خلال عقود عدة من السنين العجاف، كتابة أفسدت الذائقة الشعرية، بأثر فعالية تكرار الكم الهائل من قصائد الهتاف، التي رسخت ثوابت معيبة في الممارسة الكتابية والذائقة الفنية ، حتى ضيقت على حيز الوعي في البحث عن طرائق التفكير والتعبير خلال النص الشعري .
لذا يتوجب على الكثير، أن ينطلق من قصيدة سبعينيات القرن الماضي، كي يكون  مجدداً وعابراً لها، وكي يستطيع تجاوز غبار الخراب الثقافي الذي يتمسك به البعض بوعي كامل، ولتغدوا كتابة الشعر بعيداً عن تلك الأضواء الاحتفالية والنبرة المنبرية العالية في صراخها.
أما السمة البارزة والواضحة للشعر الشعبي العراقي المغنى في سبعينيات القرن الماضي ، فهي انها كانت ذات أفق ، يبحث فيه الشاعر عن الصور الشعرية المتعددة الأصوات والمشبعة بنكهة البيئة العراقية ، مع تجليات حية تلامس أبعاد الحياة وتفاصيلها الجمالية ، حيث كان الشاعر مصراً على تطوير أدواته الفنية والثقافية التي تسهم في دعم  إبداعه الشعري الحقيقي الذي لا تصنعه الدعاية. وما القصيدة إلا موقف إنساني لا يقبل المقايضة.

نقلا عن صحيفة الصباح

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com