علي النموذج الكوني للانسان
زاحم جهاد مطر
الحلقة الخامسة : عبقرية القلم والخطابة
يقول أحد المفكرين ان نهج البلاغة قد دون وكتب في عصر لم تكن فيه لغة العرب فيه لغة النثر وانما كانت لغة الشعر وكان اهتمام العرب بالشعر اهتماماً استثنائياً ، ونستطيع ان نقدر حجم هذا الاهتمام من خلال تعليق القصائد على أسوار الكعبة وإقامة المهرجانات الخاصة بالشعر . واستمر هذا الاهتمام الى يومنا هذا ولو بدرجات متفاوتة ، ولكن النثر ولغاية القرن الأول لم يكن إلا نثراً بدائياً . ومقارنة بسيطة بين النصوص النثرية والقصائد الشعرية التي وصلتنا نجد هناك فرقاً شاسعاً بين الشعر والنثر ، وجاء نهج البلاغة نصاً شاملاً وشامخاً وكانه نثر ينتمي الى عصر الكمال الأدبي في اللغة ويعبر عن أرقى مراحل الجمال اللغوي والأدبي . ووجود نثر بهذا المستوى من الرقي والعمق وجمال الايقاع وغنى المعنى وجزالة التعبير ، والذي حير عقول الادباء والمفكرين والمهتمين بالبلاغة ، ألا يمكن إعتباره معجزة !؟ بل أكثر من معجزة تتحدث عن قابلية انسان بلغ الذروة في كل الجوانب ومنها مجال القلم والخطابة والتي انفرد بها .
في كل الاحوال يبقى الإمام علي ظاهرة إستثنائية في كل شيء وفي كل صفة من صفاته تجاوزت حدود الزمان وفي اختراق حدود العقل البشري الجبار وفي ذلك يقول ميخائيل نعيمة الشاعر والأديب والفيلسوف مايلي ( إنه ليستحيل على أي مؤرخ او كاتب ان يأتيك حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الامام علي فالذي فكرَهُ وتأمَلَهُ وقالَهُ وعمَلَهُ ذلك العملاق بينه وبين نفسه وربه وبما لم تسمعه أذن ولم تبصره عين وهو أكثر بكثير مما عمله بيده أو اذاعه بلسانه وقلمه وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة ) وهذا الكلام صحيح الى أبعد الحدود حيث لاتزال البشرية تبحث عن الصورة الكاملة لعلي وكل لحظة تكتشف شيئاً جديداً في هذه الشخصية الفريدة .
وسوف نحاول في هذا القسم ان نتطرق الى شيء من بلاغته وفصاحته ، وهو إمام البلغاء وسيد الفصحاء بلا ريب ولكن قد يسأل سائل لماذا يكون علياً إماماً للبلغاء وسيداً للفصحاء ؟ وللاجابة على هذا السؤال نحيل السائل الى قول الشيخ محمد عبده عن نهج البلاغة وفيه الجواب الكافي والشافي لهذا السؤال حيث يقول الشيخ ( واحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً لايشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الألهي واتصل بالروح الانساني فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسحبه الى الملكوت الأعلى ونما به الى مشهد النور الأجلى وسكن به الى عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس وآناتِ كاني أسمع خطيب الحكمة ينادي باعلياء الكلمة وأولياء أمر الامة يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب ويرشدهم الى دقائق السياسة ويهديهم طرق الكياسة ويرتفع بهم الى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير ويشرف بهم الى حسن المصير ) .
وكيف لايكون إمام البلغاء وسيد الفصحاء وهو الذي أرسى قواعد اللغة العربية الذي أوعز الى تلميذه أبي الاسود الدؤلي ان يدون تلك العلوم الألسنية والقواعد النحوية التي علمه اياها . ويقول أبو الاسود الدؤلي عن هذا الموضوع مايلي :
( دخلت على أمير المؤمنين ، فالقى عليَّ صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما انبأ عن المسمى والفعل ما انبأ عن حركة المسمى والحرف ما انبأ عن معنى ليس بإسم ولا فعل ... الخ ) ويستمر ابو الاسود الدؤلي في حديثه حيث يقول ( فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها إنَّ و أنَّ و لَيتَ و لَعلَ و كأن ولم أذكر لكن ، فقال لي لم تركتها فقلت لم احسبها منها فقال بل هي منها فزدها فيها ) . ومجرد الاطلاع على ما جاء في حديث ابو الاسود الدؤلي نعترف صاغرين بان الإمام علي هو الواضع والمؤسس لقواعد اللغة العربية .
بالاضافة الى ان خطب وأقوال الإمام علي لهي دليل مادي على إنه هو الأب الروحي لعلوم اللغة العربية النحوية والبلاغية وكان نتيجة ذلك ان اتحف الانسانية بتراث روحي وفير وبكنز فكري غزير تعجز اللغة العربية عن الاتيان بمثله شكلاً ومضموناً ، كما ويعتبر كتابه نهج البلاغة من الناحية البلاغية ايضاً هو المقياس والمعيار لسلاسة اللغة العربية ذلك لانه الكتاب الذي لايفوقه كتاب آخر علماً وفكراً وبلاغة إلا الكتاب السماوي الخالد القرآن الكريم ولذلك قيل عن كلامه أي كلام الامام علي إنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين
يقول الكاتب المسيحي روكس بن زايد العزيزي ( يقيناً ان كل مثقف عربي وكل كاتب عربي وكل شاعر عربي وكل خطيب عربي مدين للامام علي ، وانطلاقاً من هذه النقطة فنحن لانعد كاتباً او أديباً عربياً مثقفاً ثقافة عربية أصيلة إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة ) . ما أجمل هذه الحقيقة !!
وأقرأ مايقوله الأديب الشاعر بولص سلامة :
ياعلي العصـور هـذا بيانـي صغتُ فيه وحي الإمام جلياً
انت سلسلت مجانك للفصحى ونسقـت ثوبهـــا السحريـــــا
يا أميـــر البيان هذا وفائــي أحمـــــد الله إن خلقـتُ وفيــا
يا أميـر الاسلام حسبي فخرا اننــي منـك مالــئ أصغريــا
جلجـل الحـــق في المسيحـي حتى عُدَّ من فـرط حبه شيعيا
انا من يعشق البطولة والالهام والعـــــــدل والخلـق الرضيـا
فان لــم يكـن علــي نبيــــــاً فلقــــد كـان خلقــــــه نبويــــاً
ويقول الأديب والمفكر المسيحي نصري سلهب عن بلاغة الإمام علي قوله
( ما اقترب أمرؤ من الله ، حرفاً وروحاً ، كإقتراب علي منه في نهج البلاغة)
هذه العبارة الرائعة التي تتحدث بصدق عن نهج منهج الصدق على صراط الحق ، هذا النهج العظيم الذي يمثل الجزء الثري والثمين من تراث الإمام علي الفكري والروحي الخلاق الذي تركه ليس للمسلمين فقط وانما لعموم الإنسانية كي تصنع منه قوانينها وتستمد منه احكامها وتصنع منه دساتيرها ونظمها كما يقول راجي أنور هيفا.
ويقول الأديب فؤاد افرام البستاني ( الحكمة عند علي بن أبي طالب وافرة المعنى، جميلة المبنى ، يأخذها عقلية لا لون لها ولا رسم فتمر في مخيلتهِ ، فاذا هي صورة جميلة ، تترجرج فيها الحياة ) . ويؤكد البستاني في ان هناك ثلاث قوى أساسية لعبت دوراً هاماً في صياغة شخصية علي الأدبية ، فبالاضافة الى الإيمان العميق بالله وبرسوله وبكتابهِ الكريم والقرآن ، هناك القوة الأولى وهي الشعور العميق والمرهف والقوة الثانية وهي المخيلة المشبعة بالحكمة والقوة الثالثة وهي العقل المرتكز على المنطق وعلى فهم متغيرات الحياة ومتطلباتها . ومن هنا يمكن القول بأن كلام الإمام علي تجاوز حدود الزمان والمكان بحيث يمكن ان يراه أي جيل وفي أي مكان من هذا العالم انه قد قيل من أجله ولهُ.
والإمام علي في نظر جبران خليل جبران ( حكيم في طليعة حكماء العصور مات ولم يعش العرب الى ضوئه بل عشا الفرس اليه ، حتى كانت أزمنة طويلة اهتدوا بعدها الى مناهج بلاغتهِ وعظمة شخصيتهِ وهو بذلك كله يعيش في هيكل الفكر المطلق والروح المطلق ، لا يختلي بذاتهِ إلا ليبعث في الناس كلاماً أبدياً لإتصاله بينابيع المعرفة الصافية ) .
وهذه الصورة الشفافة والواضحة للعلاقة بين فكر جبران خليل جبران والمفكرين الآخرين من غير المسلمين يؤكد ان الإمام علي لم يكن إماماً للمسلمين فقط بل لكل القلوب التي تبحث عن الحق والخير والفضيلة.
ويذهب جبران أكثر من ذلك حين يقول ( إن الناس المعجبين بمناهج بلاغة الإمام علي صنفان: إما صاحب عقل راجح وإما صاحب فكرة سليمة تهفو بطلبها الى الحق والخير وما عدا ذلك فهم قوم يحتاجون الى رجاحة العقل ويفتقرون الى صقل وتهذيب سلامة الفطرة ، فهم العرب الذين آثروا ظلمات أيامهم وظلم جاهليتهم على نهج علي وعلى نور بلاغتهِ التي لم يفهموها أو بالاصح لم يريدوا أن يفهموها ) .
وسوف نختار جملة واحدة من أقوال الأديب الفيلسوف ميخائيل نعيمة حتى لا نطيل المقال ونختار جملته البليغة التي قال فيها ( إن علياً لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان ) .
ويتفق الأديب عباس محمود العقاد مع المستشرق الاسكتلندي وليم موير بانهم يرون في الإمام علي صورة الحكيم سليمان بن داود ذاته مع الأخذ بعين الإعتبار ان هذه الحكمة كانت في خدمة الآخرين أكثر مما كانت في خدمة صاحبها وراعيها .
وقد عبر الباحث والأديب الكبير جورج جرداق عن نوعية المواضيع التي تناولها الإمام علي في خطبهِ وكلماتهِ حيث يقول ( ومن ذكاء علي المفرط في نهجه انه نوع البحث والوصف فاحكم في كل موضوع ولم يقتصر جهده العقلي على ناحية واحدة من الموضوعات أو من طرق البحث ، فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا وشؤون الناس ، وطبائع الأفراد والجماعات ، وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء ، ويسهب في القول في التاريخ الطبيعي فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنحلة والطاووس والجرادة وما اليها ، ويصنع للمجتمع دساتير وللاخلاق قوانين ، ويبدع في التحدث عن خالق الكون وروائع الوجود ، وانك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق الحكيم في مثل هذا الاسلوب النادر ) .
الأديب الكبير نصري سلهب يقول عن نهج البلاغة ( لو قدر لنهج البلاغة من ينقله روحاً ومعنى الى بعض لغات الغرب ، لأخذ عليٌ مكانه بين أعظم المفكرين الذين خاطبوا القلوب والعقول والضمائر ليرقوا بها الى ملكوت الله ، ذلك الملكوت الذي لا يزول حيث تنعم النفس بخلود أبدي في حضرة الله ) . وفي مكان آخر يقول ( حياتك سفر قداسة لو يقرأه البشر ويعيشونه لاستمالت قلوبهم قطعاً من السماء، ذلك هو سر خلودك يا علي ، لأنك حي بالله ، والله حي فيك ) .
يقول أبن أبي الحديد المعتزلي ما يلي ( وأنت اذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً ونفساً واحداً واسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن أوله كأوسطهِ ، وأوسطه كآخرهِ وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور).
وسوف أعرض على القارئ الكريم احدى خطبه المذهلة لكل الاجيال وهي ايضاً واحدة من تلك الخطب البليغة التي حيرت أرباب الفكر أمام هذه الطاقة البلاغية الخلاقة التي لم ولن تتوفر لأي انسان آخر في الوجود إلا لعلي . وهذه الخطبة هي خالية من النقاط وقد يكون قد اطلع عليها بعض القراء ولم يطلع عليها آخرون ولكن العبرة ليس بالاطلاع وانما بالتدقيق والتمحيص والتفكر والتدبر ، ومن ثم التوصل الى الحقيقة القائلة بانها معجزة من معجزات علي البلاغية ، وهي بعيدة كل البعد عن التكلف والتصنع اي ان الإمام لم يقل هذه الكلمات لمجرد أن يثبت بانه قادر على الاتيان بعدة كلمات خالية من النقط بل تضمنت كلماته جملة من المبادئ العليا كعادته ، فلنقرأ سوية هذه الكلمات الخالية من النقط وبعد ذلك نتحول الى خطبة اخرى أكثر إعجاز
خطبة الإمام علي ( عليه السلام ) الخالية من النقط
قال ( عليه السلام ) : ( الْحَمْدُ للهِ ، أَهل الْحَمْدِ وَمَأْواهُ ، وَلَهُ أَوْكَدُ الْحَمْدِ وَأَحْلاَهُ ، وَأَسْرعُ الْحَمْدِ وَأَسراهُ ، وَأَطْهرُ وَأَسْماهُ ، وَأَكْرمُ الْحَمْدِ وَأَوْلاَهُ ...
الْحَمْدُ للهِ ، الْمَلِكِ الْمَحْمُودِ ، الْمَالِكِ الْوَدُودِ ، مُصَوِّرِ كُلِّ مَوْلُود ، وَمَوْئِلِ كُلِّ مَطْرُود ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ ، وَمُوَطِّدِ الأطْوادِ ، وَمُرْسِلِ الأمْطَارِ ، وَمُسَهِّلِ الأَوْطَارِ ، عَالِمِ الأَسْرارِ وَمُدْرِكِهَا ، وَمُدَمِّرِ الأَمْلاَكِ وَمُهْلِكِهَا ، وَمُكَوِّرِ الدُّهُورِ وَمُكَرِّرِهَا ، وَمُورِّدِ الأُمُورِ وَمُصَدِّرِهَا ، عَمَّ سماءه ، وَكَمَّلَ رُكَامَهَ وَهَمَلَ ، وَطَاوَعَ السَّؤالَ وَالأَمَلَ ، وَأَوْسَعَ الرَّمْلَ وَأَرْمَلَ ، أحمده حمداً ممدوداً ، وأوحده كما وحد الأواه ، وهو الله لا إله للأمم سواه ، ولا صادع لما عدل له وسواه ، أَرْسَلَ مُحَمَّداً عَلَماً لِلإِسْلاَم ، وَإِماماً لِلْحُكّام ، مُسَدِّداً لِلرُّعاعِ ، ومعطل أحكام ود وسواع ، أعلم وعلم ، وحكم وأحكم ، وأصل الأصول ، ومهد وأكد الموعود وأوعد ، أوصل الله له الإكرام ، وأودع روحه الإسلام ، ورحم آله وأهله الكرام ، ما لمع رائل وملع دال ، وطلع هلال ، وسمع إهلال .
اِعْملُوا رَحمكُمْ اللهُ أَصْلَحَ الأَعْمَالِ ، وَاسْلُكُوا مَصالِحَ الْحَلاَلِ ، وَاطْرَحُوا الْحَرامَ وَدَعُوهُ ، وَاسْمَعُوا أَمْرَ اللهِ وَعُوهُ ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَرَاعُوها ، وَعَاصُوا الأَهْواءَ وَارْدَعُوها ، وصاهروا أهل الصلاح والورع ، وصارموا رهط اللهو والطمع ، ومصاهركم أطهر الأحرار مولداً ، وأسراهم سؤدداً ، وأحلامكم مورداً ، وها هو أمّكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرّمة ، وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه ، وهو أكرم صهر أودع الأولاد ، وملك ما أراد ، وما سهل مملكه ، ولا هم ولا وكس ملاحمه ولا وصم ، اسأل الله حكم أحماد وصاله ، ودوام إسعاده ، وأهلهم كلا إصلاح حاله ، والأعداد لمآله ومعاده ، وَلَهُ الْحَمْدُ السَّرْمَدُ ، وَالْمَدْحُ لِرَسُولِهِ أَحْمَدَ (…
ذكرت باننا بعد الاطلاع على الخطبة الخالية من النقط سوف نطلع على خطبة اخرى أكثر إعجازاً ، وهذه الخطبة خطبة كاملة خالية من حرف الألف ، وقد يظن القارئ بان الإمام علي قد فكر وتريث وصرف الكثير من الوقت والجهد لترتيب كلمات خطبته ولكن الذي يحير العقل هو ارتجاله لهذه الخطبة من غير تريث ولاتفكير حيث تذاكر قوم من اصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : أي حروف الهجاء أكثر في الكلام ؟؟ فأجمعوا على ان حرف الألف هو الأكثر استخداماً ، وهنا ارتجل الإمام علي هذه الخطبة الرائعة التي تدل لوحدها على فصاحته وبلاغته وكيف لا وهو باب مدينة العلم الذي منه أتت البلاغة واليه تنتهي .
ولنقرأ سوية ، وبعد الاطلاع على الخطبة ليحاول كل منا ان يكتب شيئاً فيه معنى بكلمات خالية من النقط او من حرف الألف ، وليأخذ الوقت الكافي والتفكير الكافي ، ولينظر كم من الجمل المفيدة سوف يستطيع ان يكتب !! خطبة الإمام علي ( عليه السلام) الخالية من الألف
تذاكر قوم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أي حروف الهجاء ادخل في الكلام ؟ فأجمعوا على الألف ، فارتجل الإمام علي ( عليه السلام ) من غير تريّث ولا تفكير ، فقال :
( حَمِدْتُ مَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ ، وَسَبَغَتْ نِعْمَتُهُ ، وَسَبَقَتْ غَضَبَهُ رَحْمَتُهُ ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ ، وَنَفِذَتْ مَشيئَتُهُ ، وَبَلَغَتْ قَضِيَّتُهُ ، حَمِدْتُهُ حَمْدَ مُقِرٍّ بِرُبوُبِيَّتِهِ ، مُتَخَضِّعٍ لِعُبوُدِيَّتِهِ ، مُتَنَصِّلٍ مِنْ خَطيئَتِهِ ، مُتَفَرِّدٍ بِتَوْحيدِهِ ، مُؤَمِّلٍ مِنْهُ مَغْفِرَةً تُنْجيهِ ، يَوْمَ يُشْغَلُ عَنْ فَصيلَتِهِ وَبَنيهِ .
وَنَسْتَعينُهُ وَنَسْتَرْشِدُهُ وَنَسْتَهْديهِ ، وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ، وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ مُخْلِصٍ مُوقِنٍ ، وَفَرَّدْتُهُ تَفَرُّدَ مُؤْمِن مُتَيَقِّنٍ ، وَوَحَّدْتُهُ تَوْحيدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ ، لَيْسَ لَهُ شَريكٌ في مُلْكِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِىٌّ في صُنْعِهِ ، جَلَّ عَنْ مُشيرٍ وَوَزيرٍ ، وَعَنْ عَوْنِ مُعينٍ وَنَصيرٍ وَنَظيرٍ .
عَلِمَ فَسَتَرَ ، وَبَطَنَ فَخَبَرَ ، وَمَلَكَ فَقَهَرَ ، وَعُصِىَ فَغَفَرَ ، وَحَكَمَ فَعَدَلَ ، لَمْ يَزَلْ وَلَنْ يَزوُلَ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ ، رَبٌّ مُتَعَزِّزٌ بِعِزَّتِهِ ، مُتَمَكِّنٌ بِقُوَّتِهِ ، مُتَقَدِّسٌ بِعُلُوِّهِ ، مُتَكَبِّرٌ بِسُمُوِّهِ ، لَيْسَ يُدْرِكُهُ بَصَرٌ ، وَلَمْ يُحِطْ بِهِ نَظَرٌ ، قَوِىٌّ مَنيعٌ ، بَصيرٌ سَميعٌ ، رَؤُفٌ رَحيمٌ .
عَجَزَ عَنْ وَصْفِهِ مَنْ يَصِفُهُ ، وَضَلَّ عَنْ نَعْتِهِ مَنْ يَعْرِفُهُ ، قَرُبَ فَبَعُدَ ، وَبَعُدَ فَقَرُبَ ، يُجيبُ دَعْوَةَ مَنْ يَدْعُوهُ ، وَيَرْزُقُهُ وَيَحْبُوهُ ، ذُو لُطْفٍ خَفي ، وَبَطْشٍ قَوِىٍّ ، وَرَحْمَةٍ مُوسَعَةٍ ، وَعُقُوبَةٍ مُوجِعَةٍ ، رَحْمَتُهُ جَنَّةٌ عَريضَةٌ مُونِقَةٌ ، وَعُقُوبَتُهُ جَحيمٌ مَمْدُودَةٌ موُبِقَةٌ .
وَشَهِدْتُ بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ رَسوُلِهِ ، وَعَبْدِهِ وَصَفِيِّهِ ، وَنَبِيِّهِ وَنَجِيِّهِ ، وَحَبيبِهِ وَخَليلِهِ ، بَعَثَهُ في خَيْرِ عَصْرٍ ، وَحينِ فَتْرَةٍ وَكُفْرٍ ، رَحْمَةً لِعَبيدِهِ ، وَمِنَّةً لِمَزيدِهِ ، خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ ، وَشَيَّدَ بِهِ حُجَّتَهُ ، فَوَعَظَ وَنَصَحَ ، وَبَلَّغَ وَكَدَحَ ، رَؤُفٌ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ ، رَحيمٌ سَخِيٌّ ، رَضِىٌّ وَلِىٌّ زَكِىٌّ ، عَلَيْهِ رَحْمَةٌ وَتَسْليمٌ ، وَبَرَكَةٌ وَتَكْريمٌ ، مِنْ رَّبٍّ غَفوُرٍ رَحيمٍ ، قَريبٍ مُجيبٍ .
وَصَّيْتُكُمْ مَعْشَرَ مَنْ حَضَرَنى بِوصِيَّةِ رَبِّكُمْ ، وَذَكَّرْتُكُمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِرَهْبَةٍ تَسْكُنُ قُلوُبَكُمْ ، وَخَشْيَةٍ تُذْرى دُمُوعَكُمْ ، وَتَقِيَّةٍ تُنْجيكُمْ قَبْلَ يَوْمِ يُبْليكُمْ وَيُذْهِلُكُمْ ، يَوْمَ يَفوُزُ فيهِ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُ حَسَنَتِهِ ، وَخَفَّ وَزْنُ سَيِّئَتِهِ ، وَلْتَكُنْ مَسْئَلَتُكُمْ وَتَمَلُّقُكُمْ مَسْاَلَةَ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ ، وَشُكْرٍ وَخُشوُعٍ ، بِتَوْبَةٍ وَتَوَرُّعٍ ، وَنَدَمٍ وَرُجوُعٍ ، وَلْيَغْتَنِمْ كُلُّ مُغْتَنِمٍ مِنْكُمْ صِحَّتَهُ قَبْلَ سُقْمِهِ ، وَشَبيبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ ، وَفَرْغَتَهُ قَبْلَ شُغْلِهِ وَحَضَرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ ، قَبْلَ تَكَبُّرٍ وَتَهَرُّمٍ وَتَسَقُّمٍ ، يَمُلُّهُ طَبيبُهُ ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ حَبيبُهُ ، وَيَنْقَطِعُ غِمْدُهُ ، وَيَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ .
ثُمَّ قيلَ هُوَ مَوْعُوكٌ وَجِسْمُهُ مَنْهوُكٌ ، ثُمَّ جُدَّ في نَزْعٍ شَديدٍ ، وَحَضَرَهُ كُلُّ قَريبٍ وَبَعيدٍ ، فَشَخَصَ بَصَرُهُ ، وَطَمَحَ نَظَرُهُ ، وَرَشَحَ جَبينُهُ ، وَعَطَفَ عَرينُهُ ، وَسَكَنَ حَنينُهُ ، وَحَزَنَتْهُ نَفْسُهُ ، وَبَكَتْهُ عِرْسُهُ ، وَحُفِرَ رَمْسُهُ ، وَيُتِمُّ مِنْهُ وُلْدُهُ ، وَتَفَرَّقَ مِنْهُ عَدَدُهُ ، وَقُسِمَ جَمْعُهُ ، وَذَهَبَ بَصَرُهُ وَسَمْعُهُ ، وَمُدِّدَ وَجُرِّدَ ، وَعُرِىَ وَغُسِلَ ، وَنُشِفَ وَسُجِّىَّ ، وَبُسِطَ لَهُ وَهُيِّىءَ ، وَنُشِرَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقَنُهُ ، وَقُمِّصَ وَعُمِّمَ وَوُدِّعَ وَسُلِّمَ ، وَحُمِلَ فَوْقَ سَريرٍ ، وَصُلِّىَ عَلَيْهِ بِتَكْبيرٍ ، وَنُقِلَ مِنْ دُورٍ مُزَخْرَفَةٍ ، وَقُصُورٍ مُشَيَّدَةٍ ، وَحُجُرٍ مُنَجَّدَةٍ ، وَجُعِلَ في ضَريحٍ مَلْحُودٍ ، وَضيقٍ مَرْصوُدٍ ، بِلَبِنٍ مَنْضُودٍ ، مُسَقَّفٍ بِجُلْموُدٍ .
وَهيلَ عَلَيْهِ حَفَرُهُ ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ ، وَتَحَقَّقَ حَذَرُهُ ، وَنُسِىَ خَبَرُهُ ، وَرَجَعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَصَفِيُّهُ ، وَنَديمُهُ وَنَسيبُهُ ، وَتَبَدَّلَ بِهِ قَرينُهُ وَحَبيبُهُ ، فَهُوَ حَشْوُ قَبْرٍ ، وَرَهينُ قَفْرٍ ، يَسْعى بِجِسْمِهِ دوُدُ قَبْرِهِ ، وَيَسيلُ صَديدُهُ مِنْ مَنْخَرِهِ ، يَسْتَحقُ تُرْبُهُ لَحْمَهُ ، وَيَنْشَفُ دَمَهُ ، وَيَرُمُّ عَظْمَهُ حَتّى يَوْمِ حَشْرِهِ ، فَنُشِرَ مِنْ قَبْرِهِ حينَ يُنْفَخُ في صُورٍ ، وَيُدْعى بِحَشْرٍ وَنُشُورٍ ، فَثَمَّ بُعْثِرَتْ قُبوُرٌ ، وَحُصِّلَتْ سَريرَةُ صُدُورٍ ، وَجييءَ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِدّيقٍ وَشَهيدٍ ، وَتَوَحَّدَ لِلْفَصْلِ قَديرٌ ، بِعَبْدِهِ خَبيرٌ بَصيرٌ .
فَكَمْ مِنْ زَفْرَةٍ تُضْنيهِ ، وَحَسْرَةٍ تُنْضيهِ ، في مَوْقَفٍ مَهوُلٍ ، وَمَشْهَدٍ جَليلٍ ، بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ عَظيمٍ ، وَبِكُلِّ صَغيرٍ وَكَبيرٍ عَليمٍ ، فَحينئذٍ يُلْجِمُهُ عَرَقُهُ ، وَيُحْصِرُهُ قَلَقُهُ ، عَبْرَتُهُ غَيْرُ مَرْحُومَةٍ ، وَصَرْخَتُهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ، وَحُجَّتُهُ غَيْرُ مَقْبوُلَةٍ ، وبَرزتْ صَحيفَتُهُ ، وَتُبِينتْ جَريدَتُهُ ، فنَظَرَ في سُوءِ عَمَلِهِ ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ عَيْنُهُ بِنَظَرِهِ ، وَيَدُهُ بِبَطْشِهِ ، وَرِجْلُهُ بِخَطْوِهِ ، وَفَرْجُهُ بِلَمْسِهِ ، وَجِلْدُهُ بِمَسِّهِ ، فَسُلْسِلَ جيدُهُ ، وَغُلَّتْ يَدُهُ ، وَسيقَ فَسَحِبَ وَحْدَهُ ، فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكَرْبٍ وَشِدَّةٍ ، فَظُلَّ يُعَذَّبُ في جَحيمٍ ، وَيُسْقى شَرْبَةٌ مِنْ حَميمٍ ، تَشْوى وَجْهَهُ ، وَتَسْلَخُ جِلْدَهُ ، وَتَضْرِبُهُ زِبْنِيَةٌ بِمَقْمَعٍ مِنْ حَديدٍ ، وَيَعوُدُ جِلْدُهُ بَعْدَ نُضْجِهِ كَجِلْدٍ جَديدٍ ، يَسْتَغيثُ فَتُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ ، وَيَسْتَصْرِخُ فَيَلْبَثُ حَقْبَةً يَنْدَمُ . هذِهِ مَنْزِلَةُ مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ، وَحَذَّرَ نَفْسَهُ مَعْصِيَتَهُ ، وَتِلْكَ عُقُوبَةُ مَنْ جَحَدَ مَشيئَتَهُ ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مَعْصِيَتَهُ ، فَهُوَ قَوْلٌ فَصْلٌ ، وَحُكْمٌ عَدْلٌ ، وَخَبَرٌ قَصَصٌ قَصٌّ ، وَوَعْظٌ نَصٌّ : تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ ، نَزَلَ بِهِ رُوحُ قُدُسٍ مُّبينٍ عَلى قَلْبِ نَبِيّ مُهْتَدٍ رَشيدٍ ، صَلَّتْ عَلَيْهِ رُسُلٌ سَفَرَةٌ ، مُكَرَّمُونَ بَرَرَةٌ ، عُذْتُ بِرَبٍّ عَليمٍ ، رَحيمٍ كَريمٍ ، مِنْ شَرِّ كُلِّ عَدُوٍّ لَعينٍ رَجيمٍ ، فَلْيَتَضَرَّعْ مُتَضَرِّعُكُمْ وَ لْيَبْتَهِلْ مُبْتَهِلُكُمْ ، وَلْيَسْتَغْفِرْ كُلُّ مَرْبوُبٍ مِنْكُمْ لي وَلَكُمْ ، وَحَسْبي رَبّي وَحْدَهُ(.
ونعرض الآن بعضاً من أبياته الشعرية والتي فيها العجب العجاب وفيها احتراف وصناعة للشعر ، وفي هذا المثال سوف يتمكن القارئ من قرائتها افقياً وعمودياً :
↓ ↓ ↓ ↓
← ألــوم صديقي وهذا محال
← صديقـي أحبه كـلام يقـال
← وهـذا كـلام بليـغ الجمـال
← محال يقـال الجمال خيـال
أما في هذه الأبيات فلاحظوا معي ماذا يحدث لو قرأنا الأبيات بالمقلوب
مودته تدوم لكل هول وهل كل مودته تدوم
م ود ت - هـ ت د وم - ل ك- ل هـ و- ل وهـ - ل ك ل - م ود ت - هـ ت د وم →
أما في هذه الأبيات فنلاحظ انها أبيات مدح وثناء بصورة طبيعية ، ولكنها تتحول الى قصيدة ذم وقدح اذا قرأت بالمقلوب ، وتكون قصيدة ذم علماً ان هذه الأبيات قالها الإمام في مدح نوفل بن كرم .
حلموا فما ساءت لهم شيم سمحوا فما شحت لهم منن
سلمـوا فلا زلت لهـم قــدم رشـدوا فلا ضلت لهم سنن
والآن لنقرأ القصيدة بالمقلوب :
سنن لهم ضلت فلا رشـدوا قــــدم لهـم زلت فى سلموا
منن لهم شحت فما سمحوا شيم لهم ساءت فما حلموا
هذا هو علي " ذروة المطلق " النموذج والمثال .والى حلقـة قادمـــــــــــــة