2- الدرب الطويل/ 19
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)
محمد علي الشبيبي
السويد 27/01/2011
الويل
ثلاثة أيام مرت، أنا في شغل عن كل تفكير. كأني في حلم. أحلم بتلك التي يسمونها "الساعة". أجل، كأن الساعة قد قامت! ولكن لماذا لا يوجد غيري. أليس الناس جميعاً يبعثون فيها، ترهقهم ذلة، وجوههم باسرة!
لا، لا، أبداً، أنا أسمع صياحاً، وعويلاً، أسمع أصوات أناس تتلوى عليهم سياط، ربما تكون مقامع من حديد!
الوقت الآن منتصف الليل، هذا الوقت دائماً للعذاب! لقد سبق وأن زرت هذه البناية المشؤومة في 3/3/1947 ذات الباب الضخم، والغرف الكثيرة المتباعدة في جوانب منها.
في هذه الليلة "الأولى" أجلست في غرفة صغيرة. تحوي منضدة خلفها كرسي. ومصطبتين متقابلتين. تقدم إليّ شاب أسمر ذا وجه كالح وعابس.
- أنا شاكر غني، مجاور للبيت الذي يقيم فيه أخوك "حسين"، ولك وحق جواري لأخيك، لابد من الإحسان لك!؟وربطني بسلسلة إلى أنابيب تتصل من أسفل إلى أعلى، بجانب الجدار!؟
لم أهتدي وأنا أحاول أن أعرف سبب ما حصل لي. الشرطيان الطيبان سلماني إلى هذا قبيل غروب الشمس. أجل، قلت طيبان، ربما هما حقاً طيبان. وربما لأنهما شاهدا اهتمام القائممقام الأستاذ ضياء شكاره، ومعاون الشعبة كاظم سوادي.
صحيح إني كنت في دهشة مما حدث، كان ما حدث مفاجأة غريبة. جمعت بين الأسى والتفاؤل بالخير؟!
يوم حدث التحري في 9/1/1948، كنت في مقهى حبيب، غارقاً بين القلم والدفتر، أكتب الفصل الأول وللمرة الثانية من رواية "تلميذ في العاصمة"، يبدو إنها مشؤومة! العفو، هذا تعبير رديء!
في الناصرية بعد أن جلبت أهلي، ولما يمضي على إقامتهم أكثر من أثنين وعشرين يوماً، إنهم مازالوا غرباء. عاودت الكتابة، لأكمل الرواية التي تتناول سيرة حياة أخي حسين. كنت حريصاً ومصراً على إنجازها. وفي مقهى حبيب كل يوم جمعة ، أنزوي بعيداً عن رواد المقهى، لأكتب. لا أحد من المعلمين يعرف أين أنا، كلهم يرتادون النادي. وحينما أنتهي، أترك دفتري، عند قريبي الخياط شهاب أحمد. هذا زميلي المعلم عباس جلاب، وقف أمامي فجأة، وقال "المختار رشيد يبحث عنك؟!". من هو المختار رشيد، أنا لا أعرفه.
- انه مختار محلة السيف، كان في النجف بمناسبة زيارة الأربعين، ربما هو يحمل وصية من أهلك
كنت كأبله ناقشته وامتنعت عن مغادرة المقهى. فأنا لا أعرف المختار. ذهب وعاد بعد نصف ساعة، وقال "أهلك أيضاً يبحثون عنك، وعدتهم أن أخبرك!". أسرعت، أودعت دفتري كالعادة، قريبي كان يبدو عليه أرتباك. وبلهجة كئيبة قال "سارع، ولا تنس أن تخبرني ماذا حدث؟"
حين اقتربت من الدربونة "الزقاق" شاهدت عدداً من الشرطة، من بدايتها إلى نهايتها المتصلة بشارع النهر. كل شيء صار واضحاً الآن. واستقبلني معاون الشعبة كاظم سوادي. رحب، وقدم لي صورة برقية، وقال "أقرأ. أنا لا أعلم شيئاً من هذا، إنها مباغتة، أنشاء الله خيراً!".
دخلت وفتحت الباب ليدخلوا. وأجري التحري، حسبما أشارت إليه البرقية "تحروا الدار، وأرسلوه إلى بغداد مخفوراً!؟".
الكتب الموجودة لدي معدودة لا تتجاوز الثلاثين، فتشوها واحداً واحداً، أثاث البيت المعدود، حتى الوسائد. كل شيء في سلام. عاد إليّ هدوئي. فقلت لشرطي، دونك كوز الماء فتشه أيضاً! وأدركت المعاون ضحكة، فقد عرف مغزى كلامي، وصاح بالشرطي مؤنباً. هذه النكتة إشارة إلى ما نقل أثناء القبض على سكرتير الحزب الشيوعي "فهد" قاموا بتفتيش البيت كله، وعثروا في خزان الماء في سطح البيت على بطانية في قعره قد لفّت لفا محكما، استخرجوها فوجد فيها قوائم تحوي أسماء، اعتبروها أسماء أعضاء الحزب!
هناك في مركز الشرطة -عند الغروب- جاء لزيارتي القائممقام، ومدير المدرسة، وعدد من أصدقائي النجفيين. قال أحدهم، أنت رجل لا نخاف عليك، كن مطمأناً سنرعى عائلتك أكثر من عوائلنا.
وطلب القائممقام أن يختار الشرطيين الذين سيصحباني إلى بغداد. تقدم أحدهما وقال، العرب يتفاءلون بالأسماء، أسمي فرج.
وأسم الثاني جواد، حقاً لقد كانا طيبين وكريمين، نفذا كلما أردت بدون خوف. زرت أبن عم أبي وحدثته بالأمر. أخذتهم إلى الفندق، تغديت، ونمت، وأخذت حماماً، ولم يسلماني إلا عند مغيب الشمس. ونفحتهما بعض دنانير مع الاعتذار والشكر.
أساليب ومعاملة الشرطة مع المتهمين لم تكن مجهولة لدي. لكنهم حين يرون منزلة المتهم وعلاقاته واهتمام أصدقائه به، يكونون طبيعيين في معاملتهم له. أثناء مكوثي في مركز شرطة الناصرية، في غرفة المعاون نفسه، جلس إلي المفوض محمد حسن، وهو من أفراد الشعبة الخاصة هناك، حدثني عن حياته كلها. كان -كما يقول- شيوعياً. كاد يهلك. أبوه شرطي توسل إلى المدير، فادخل مدرسة الشرطة، وتخرج. قرأ عليّ من منظومه، شعر سياسي، يهاجم السلطة بعنف. فقلت، أنت تنظم هذا، وأنا احاسبْ؟!
أجاب ضاحكاً، لا تعجب. أنا مثل البزون، أخـ... وأطُم!
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل –أي فجر 11/1/1948-، جاء رئيس العرفاء "شاكر غني" قادني مسلسلاً إلى غرفة نايل عيسى، هنا توقعت كل شر. الرجل أعرفه جيداً. كنت أرتدي معطفاً، وعلى رأسي صدارة، قابلني بلطف! أيكون الرجل قد استقام سلوكه؟ قال "أنت من بيت علم، وأدب، ودين، أحنه نقدر مكانتكم. وكلما نريد منك، وأنت تعرف الوشيعة مخربطين راسهه، اليهود المتغلغلين بالحزب. هسه راح نقدملك كم سؤال، جاوب عليهن بصدق، وآنه أعاهدك بشرفي، أرجعك لوظيفتك، وتستقر أحسن استقرار!. وخاطب أحد الشرطة الذين يقفون خلفي، جيبله حليب على شاي؟! وفعلاً جائني بهذا!".
ما كدت أضع الكوب على شفتي حتى هوت على رأسي كف ثقيلة، وبقوة، طار الكوب من يدي، وتبعثر الحليب الحار على وجهي ورأسي. لست أدري بأية حال نفسية أنا حينئذ. كانت شفتاي ترتجفان، أما حضرة المعاون، فقد أخذ بالصياح، كممثل مجنون، كلمات بذيئة مخجلة، تهديد، وعيد، يصرخ، يضرب المنضدة بجمع يده. وبنفس الحدة صاح، أخذه إلى الطامورة، ألعن ....
ترى ما الطامورة؟ قادني الشرطي، وفتح باب غرفة صغيرة، الباب نصفه قضبان حديد والنصف الأسفل خشبي، أشار إليّ أن أدخل. رباه، كيف؟ إنها مليئة بالأقذار، رائحتها تزكم الأنوف، خانقة! حتى عيوني لم أقدر على فتحها. ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم؟ أتكون هذه بدائرة لها أهمية عندهم؟
بعد عشرين دقيقة، اُخرجت، اقتادني الشرطي إلى سرداب فيه نزيز، إنه مستنقع! لأنظف رجليّ! توقفت قليلاً، ألا يحتمل -بل أكيد- انه معمل جراثيم، ولكن ما العمل؟
ثم إلى المعاون عبد الرزاق عبد الغفور، الذي قدم لي وريقة، تحوي أربعة أسئلة. قال، أجب عليها بدقة وصدق، تخلص، وإلا .....! وكتبت باختصار مجيب على ثلاثة، أجوبة يرتبط بعضها ببعض حسب تسلسل الأسئلة، لما لم أكن عضواً في الحزب كيف يتسنى لي معرفة اللجنة المركزية، وكذلك كيف أعرف اللجنة المحلية في النجف، والمطبعة إذا كان الحزب سرياً، بطبيعة الحال تكون المطبعة في مأمن سري أيضاً. أما الرابع، فأجبت، إن كامل قزانجي معروف انه من الوطني الديمقراطي، وخلافه مع رئيس الحزب مشهور، بينما لا صلة لي به من قريب أو بعيد. نشر الخلاف في الجرائد.
وجاء الرد بأشد من السابق. أمرت بخلع ملابسي، وفي طريقي مع الشرطي إلى سطح البناية، أشار الشرطي إلى غرفة صغيرة، فيها فراش عليه بطانية صوفية، وأمامه منقلة نار متوقدة، قال، أتريد هذه، أعترف، لو تريد، وأشار إلى سطل "إناء" فيه ماء وبجانبه عصا خيزران ... وتأوه يخاطبني، الله يحرمكم من الراحة، مثل ما أنحرمنه منها بسببكم بها الليل؟!
وهناك بعد أن ربطني إلى السياج الحديدي، تلوت الخيزرانة على جسدي، ضرباً منتظماً من أعلى إلى أسفل، ثم من أسفل إلى أعلى. كل هذا بعد نصف سطل ماء. وبتهكم كان يقول "انوي، إذا أنتم تغتسلون من الجنابة ومن الأيـ ... التاكلوها؟!". وأعادني إلى الغرفة، لأعصر فانيلتي وسروالي، وأرتدي بقية الملابس. وتمددت على المصطبة، أحاول أن أغفو، وكيف ينام الخائف المذعور؟!
في الليلة الرابعة، الساعة الواحدة ليلاً، اقتادني شرطي إلى غرفة المعاون "عبد الرزاق عبد الغفور"، لم يكن معه أحد، بعد أن تأفف وتذمر، لمحَ إلى تعقيبات الشيخ وأخويه، وأخذ يطالبني بلطف، أن أرأف بنفسي، فأعترف بما لدي.
يبدو أنه لا يسمى اعتراف، إلا إذا أيدت اتهامهم لي. كان بين يديه ثلاثة ملفات، يقلب صفحاتها ويستعرضها. أدنى واحدة منها، وقد وضع يده على أسم وتوقيع صاحب الإفادة. وقال، أقرأ!.
آه! اللعنة على الساعة التي دعوتك فيها إلى الانخراط في الحركة، صدق أخي في لومي! من أول عبارة عرفت كل شيء من أفادته. لقد أختصر الاعتراف، بعد مقدمة عن الصداقة المتينة التي تربطنا. يقول "انه كان يخجل أن يرفض ما آتيه به! في البداية كنت أستحسن ما تنطوي عليه المناشير، لأني أكره الاستعمار. بعد هذا أدركني خوف. كنت أحرق ما أستلمه للتوزيع وأدعي إني وزعته وأدفع الثمن من كيسي الخاص. علي أبلغني بعد شهرين أنه رشحني؟! ويختتم الإفادة، إني مرضت فلم أعد أتصل أو آخذ شيئاً ولا أدري هل بقي هو "علي" أم لا؟!".
المتعارف عندنا إن الترشيح لا يتم إلا بعد طلب موقع وبأجوبة صريحة من طالبي العضوية. ومن ضمن الأسئلة التي يجب أن يجيب عليها "هل أنت مستعد لتحمل، التوقيف والسجن والتعذيب والإعدام". ولكنه ذكر إن "علي" أبلغني انه رشحني.
والآن عرفت من هو؟ ... كلا، قلتُ. رفع يده عن الاسم والتوقيع، وقال، من هذا؟ أجبته، أنه صديقي "م". قال، رأيك فيما أفاد؟!. قلت، لو كنت تعلم يا سيدي ما أعلم عنه ما قبلت إفادته. الرجل مريض، عرض مرتين على لجان، تقريرها عنه مصاب بانهيار عصبي لا يصلح للوظيفة. أكتبوا إلى مستشفى النجف لتتأكدوا من صحة كلامي. ثم لماذا لم يذكر غيري؟
وقدم لي ملفاً آخر، أقرأ هذا، هل هو مجنون أيضاً؟
كان صاحب الإفادة، ابن مهندس متقاعد، وهو خريج إعدادية التجارة. وقد بدا في اعترافه فناناً، فقد رسم لخلايا التنظيم شجرة، وأفاض في التفصيل عنها. ولكن بما يخصني، قال لا علاقة لي به.
أجبت، أعرف انه حفيد لمعماري نجفي شهير، ولأبي معه صلة، ولا يعتمد على غيره في مسائل البناء إذا أحتاج، كان ذات مرة عندنا، وجاء الغلام إليه في أمر يخصهم. وسألت أبي عنه، هل هو ولد هذا الشيخ المسن؟. قال، انه حفيده. وكبرت وتعرفت على أولاد عمه، فهم جيراننا، بينما لم أتعرف عليه وعلى أبيه، فهو يسكن في الحي الجديد.
وجذب الملف الثالث بصمت. أستعرض إفادة صاحبه. انه من أهالي بغداد، يفيد إنه لا يعرفني. لكنه زميل حفيد المعماري، جمعت بينهما إعدادية التجارة، وقد زار صديقه هذا في النجف، وفي مقهى قريب من بيتهم جلسا فيها، أشار صديقه إلى شخص يجلس منفرداً، وقال انه أخو حسين وهو مسؤول النجف!
هذا الشاب موظف في وزارة المعارف -كاتب طابعة- جازف بنفسه، وأخذ ينسخ منشوراً بالآلة الطابعة، فأنتبه إليه موظف مثله، فأبلغ الجهات المختصة. هذا ما حدثني به هو حين التقينا بعد في الموقف العام بعد شهر من توقيفي. وقد لقي أذىً كثيراً لانتزاع المنشور من فمه، إذ أبتلعه ... وقلت عن أفادته وعنه، إني لم أسمع بهذا الاسم مطلقاً. ثم ما ذنبي أنا إن آفِك هذا وغيره ليدفع أو ينهي عذاباً يلقاه.
وأخيراً قال بضجر، أكتب ما شئت. خلصنا من شيوخنا وعمائمهم! فاسترسلت في الجواب وأطلته، عن كرهي للاستعمار، والاستغلال. ولا عجب فأسرتنا كلهم حاربوا الاستعمار. وأنا لا أعرف غير العربية، وشيئاً يسير من علومها، ويسيراً من الفقه. وأقرأ الجرائد والمجلات، هذا كل ما لدي. فإن اعتبرتم من يحارب الاستعمار والاستغلال "شيوعياً" فأنا لا أنكر. أما إذا أردتم إني منتسب لحزب سري بهذا الاسم، فاني لا يسعني إلا أن أؤكد لكم عدم صحة ذلك. وقد وقعت أخيراً ما أفدت به، مصدقاً من قبله.
المستجير من الرمضاء بالنار!
صباح كل يوم قبيل انتهاء الدوام، شاكر غني رئيس العرفاء، يحل وثاقي ومع الشرطي الخفر أذهب إلى الغسل والتهيؤ، كأني واحد من الموظفين، أو المراجعين، أو لعل هذا ليتعرف عليّ عملاؤهم؟
بعد الفطور، أنتقل إلى غرفة أحد موظفي الدائرة، طيلة الدوام الرسمي، يبدو كل واحد منهم اعتياديا، هشاً باشاً، ويحدثني كأننا متعارفان منذ زمن بعيد.
أحدهم وأسمه ياسين إبراهيم. يتنقل من حديث إلى آخر، بلا أي رابط. فقال مرة، أين أخوك محمد علي؟!
- لا أعلم .
رد عليّ، كيف؟ أخ لا يعلم عن أخيه؟ قلت لأنه لا يسكن في النجف معنا
- صورته على اللوحة خلفك، أنظر ليس هو وحده.
وأشار، خلفك لوحة تحوي صور الشيوعيين، أمامك صور القوميين. أما هذه وأشار إلى ما وراء ظهره فصور النشالين واللصوص. كنت اعتياديا في تبادل حديثه وأسئلته، لم أشعره إني أتضايق من أسئلته.
- أستعرض الصور، سترى صورته.
واستعرضت وأشرت بأصبعي، هذا هو.
ردّ عليّ، كان مريضاً، كيف هو الآن؟! أضحكني سؤاله، قلت أنت ذكي ولكني -لست على الأقل- غبياً. قلت انه لا يعيش في النجف.
- لا أبداً، لا أقصد إلا التحدث، لقتل الوقت. أنا بدرجة مفوض، أدرس في متوسطة التفيض، وأحب الحديث معك، لأنك معلم.
في اليوم الرابع، أدخلت إلى غرفة مفوض آخر. بدا يبتسم، ويسألني أن كنت بخير. وقال، هل لقيت منهم أذى؟ أنهم لا يرحمون. أنا كردي، الشعب الكردي مضطهد. أنا أبغضهم، لأنهم يبغضون شعبي! حتى المهمات التي بعهدتي عادية، لأنهم لا يأتمنونني. لا تخف، لا تبح بشيء مما عندك؟!
قلت بنفسي، أخيراً كشفت حقيقتك، أنك شرطي. وأجبت، المفلس في القافلة أمين، أليس كذلك!؟. في هذه الأثناء دخل واحد منهم. كان بديناً، ذا وجه عريض، يلبس الصدارة، ويرتدي معطف أسود. بادرني بالسؤال، كيف حال الأستاذ؟
- بخير
- طبعاً تدرس العربية. أنا أحبها، أحب مطالعة الكتب القديمة، كتب الجاحظ وأمثاله. لا يوجد اليوم أمثالهم، هل تنظم الشعر؟
- ليس بالمستوى العالي، وضمن حدود عواطفي.
نظر إلى ساعته، وقال حان الوقت، تهيأ، سنذهب إلى حاكم التحقيق، لتصديق إفادتك!
وخرجنا معاً، دون أن يضع في يدي قيداً. وكأن الحاكم على علم فقد وجدته وحده، ورحب بالمعاون، أهلاً أستاذ عبد اللطيف. وأمر البواب، شايين حالاً، وتحدثا مع الشاي أحاديث اعتيادية تخللتها نكات. بعد هذا ألتفت إليّ:
- سأستجوبك، حاول أن تجيب بصدق. النجاة في الصدق
وسأل المعاون: كيف كانت إفادته عندكم، هل أعترف بالواقع؟
هزّ المعاون رأسه، وقدم له ملفتي. مسك بالقلم، وأعاد عليّ، أجب بصدق لا تراوغ.
بعد الاستفسارات الروتينية، قال:
- من الذي رشحك ومن الذي رشحته، للعضوية في الحزب الشيوعي السري؟
- لست في أي حزب، لم اُرَشَح ولم أرَشِح أحداً.
أسئلة كثيرة، سأل عن الجريدة السرية هل تطالعها، ولم أتحرج فقلت: عندما أعثر عليها طبعاً.
- هل أنت عضو في الحزب الشيوعي العراقي السري؟
- أوضحت لكم إني لست في أي حزب.
رمى القلم على المنضدة بعصبية، انتو ميفيد وياكم الأحترام، أنتو مال ....! وسأل المعاون، أدبتوه زين؟ يبدي حضرته صلابة، رجعه، ثلاثة أيام أدبو تمام وجيبو
أكتفى المعاون بأبتسامة هادئة. وقلت، أكتب سعادة الحاكم ما شئت، كنت أفكر أن أشكو لعدالتكم ما لقيت، لكني الآن كالمستجير من الرمضاء ...
المعاون أكمل، بالنار ....
وتتالت الأسئلة، ويضع هو الجواب، كلها كانت هينة حتى اعتباري عضواً. وعدنا إلى مديرية التحقيقات، حيث أمرت أن أحزم ما لدي من بطانيات وحاجات. والى أين؟ لم أسأل...!
الصدف اللعينة
أحقاً هذا؟ أهي لعينة لمصلحة صاحبها، أم حين هي لغير مصلحته؟
سرعان ما توقفت بنا السيارة عند مركز شرطة الكرادة، يا للصدفة اللعينة هذا هو المعاون "محي الدين عبد الرحمن"، لا أتذكر ربما الأسمين يجب أن يكون أحدهما محل الآخر. هذه هي المرة الثانية التقي به. لأول مرة عرفته حين كان في النجف. كنت أمشي في السوق الكبير قاصداً البيت، وإذا بيد قوية تمسك عضدي بقوة، رأيته، ومع تكشيرة وضحكة ثقيلة، كُمشتك ولك وين ضام نفسك؟!
التفت وقلت، من تريد؟ أنا من؟
- أنت مهدي هاشم (مرّ ذكره في موضوعة "الخبز والمنصب")، ليش ما اعرفك؟
- تعال معي!. وتوجهت إلى متجر أعرف صاحبه، قلت لصاحبه، رجاءً قل لحضرة المعاون، من أنا؟!
قال الرجل، هذا علي الشبيبي، معلم.
- عجيب! والله يشبه مهدي هاشم، بالله، موهوَّ؟ روح يابه روح!
يتندر النجفيون عنه بحكاية طريفة. كلف أحد تجار الماشية، أن يشتري له "جاموسة صغيرة". إن التاجر لم يعتقد انه بليد إلى هذا الحد، فناقشه، إن الجاموسة لا يمكن أن تكون في البيوت وخاصة إذا كبرت. ولكنه ظل يلح -ليلعب بها الصغار-، ومن الصدف أن يروا "سخلة" فصاح، هه مثل هذه! قال له، هذه "سخلة". وظل التاجر يذكرها متندراً.
الآن أنا أمامه، وعرفني حالاً. نهض من خلف منضدته، وصاح، ها، المرة جابوك، أخوك حسين، وين صار؟ ثم إلى الشرطي، فتشه!. يا للغباء، وهل من مكث عند التحقيقات الجنائية أربعة أيام يسلم من التفتيش وهو لم يسلم من التعذيب والتحقيقات؟! أخرج من جيبي قصاصة جريدة فيها قصيدة بعنوان "يا عابد المال" لأيليا أبي ماضي. فراح يسخر، "ولك ليش تكره عابد المال، محسن شلاش أبن بلدك، عابد المال". ليته يقرأ البيتين الأولين:
خذ ما استطعت من الدنيا وأهلها لكن تعلم قليــلاً كيف تعطيهـــــا
كن وردة طيبهـا حتى لسـارقهـا لا دمنة خبثهـا حتى لســــاقيهــا
لم يقرأ غير العنوان، لأنه لا يعرف مما يقرأ. وقال للشرطي، ودّي ويّه ربعه.
أقبلت على غرفة، جدارها الأمامي من قضبان الحديد، فيها عدد من الشباب، عجبت كيف يعيش هذا العدد بهذه المساحة الصغيرة كلهم اتجهوا بأنظارهم للوافد الجديد. صاحبي وصديقي "م" بينهم، هو الذي نبههم إليّ وعرفهم بي، بعد هذا علمت أنه قص لهم الحكاية معكوسة. وهتف "هذا هو صديقي الذي حدثتكم عنه!"*
فقدت اتزاني، وصحت بوجهه، وقذفته بكلمات تحقير وإهانة. وهدأت قليلاً. بعد التعارف مع الآخرين، قلت "أين الصمود الذي كنت تتحدث عنه، أهكذا تنهار، وتعترف اعتراف خزي ونذالة؟!"
الآخرون أخذوا يهدؤنني. على أي حال، بعد ساعة، أختصر بي أحدهم. وقال، أرجو بلا امتعاض وانفعال، تحدث باختصار، كيف ومتى تم جلبك إلى بغداد؟
قلت، جلبت من الناصرية في 9/1 أي إني وصلت غروباً ليلة 10/1 إلى التحقيقات الجنائية.
عقب، لا تهتم هذا أول دليل على اتهامه زوراً. فقد أفاد هو، انه القي عليه القبض في 1/1. وكم بقيت في التحقيقات؟. قلت، هذا أول يوم أغادرها فيه إليكم بعد مواجهة حاكم التحقيق "علي فريد غالب". وفي التحقيقات بعد ثلاثة أيام تعذيب وتحقيق، أطلعت على ما أفاد واتهمني به هو ورفيقاه "جواد مجيد وشاهر ..."!
قال صاحبي، كان "شاهر" السبب ثم "جواد" في جلبه. ومن مسؤول النجف الآن؟
قلت، تخليت عن المسؤولية، وحل محلي هو "م"
أكبر الموقوفين سناً كان المحامي "محمود صالح" عضو الهيأة المؤسسة لحزب التحرر. يبدو انه منحرف الصحة. كان موزوناً ومحترماً. وطالب الحقوق "عبد اللطيف السعدي" الأكثرون لم يسبق أن تعرفت عليهم، بعضهم يهود، والباقون مسلمون من مدن شتى، طبعاً لا صلة لهم بنا سابقاً. الجميع تعاطف معي وأخذوا يهدؤنني.
ونسيت كل انفعالاتي، وكأني بين أهلي. كان ذووهم يأتون إليهم بالطعام قبيل الظهر، للغداء والعشاء. أما الفطور، فنأخذ الجيد من -كرم الدولة- لو حصل. معنا عاديون، بعضهم له مدة غير قصيرة، بعضهم يؤتى به ليلاً ويطلق سراحه نهاراً. ضاق المكان الليلة. كيف ننام؟ انه لا يمكن بحال من الأحوال؟ إذن لنسمر، سمر البلابل في الأقفاص!
بعض الشباب الحقوقيين، كان يمرن قابليته، فهو يجري تحقيقاً مع الموقوفين العاديين، حالما يدفع به الشرطي إلينا.
أغلب هؤلاء من قرى بغداد. فلاحون في المزارع القريبة. أحد الذين جيء بهم في وقت متأخر كان في سن الستين، قصير القامة، حاد النظرات، بدوي اللهجة، قال له هذا، أحكي قصتك... لم يتردد، أخذ يتحدث ومازال في هياج "كنت أتعلل، جيت البيت، لقيت منعولة الساعة، تحت .... نفض نفسو وفرّ، لكني ضربتو باخنجر، ياوسفه، ماصبتو تمام".
صاح الجميع، أنت رجل مضى وقتك، ما فيك قوة، هي تريد شاب يكفيها!
صاح، له له له، انا عمكم والله من أطرحهه وأدوس لازم تضرط!
ودوى ضحك صاخب. في هذه الأثناء جاء شرطي بشاب. فصاح البدوي، هه، جيت يمنعول الوالدين، والله لو ما تكون هاي دار حكومة، وسدتك المنية!
بين الذين جيء بهم الليلة عامل ميكانيكي كهل، من أطراف بغداد. كان كاسف البال، غارقاً في حزن عميق. ينتحب بهدوء بين فترة وأخرى. لم يجرأ صاحبنا أن يستجوبه. دنا منه "محمود صالح" هدأه بكلمات طيبة. طلب منه أن يفضي له حكايته، ليساعدوه قانونياً. أنفجر الرجل بالبكاء. كان يضرب كفاً بكف ويردد "هم شرفي، وهم آنه أنتهم". لكنه بعدئذ هدأ. إن أخته الصغيرة اتهمته انه افتضها!. المحامي سأله، أهي تقيم معك؟. أجاب، أكثر الأيام عند أختي المتزوجة.
- بسيطة. إذن هناك احتمال، أن تكون العلاقة مع زوج أختها، لك أن تذكر هذا للمحقق. سيهتدون حتماً إن كنت بريئاً.
وكأن هذه الملاحظة جرحته، فأنفجر يبكي بمرارة ....
كان كل يوم يدعى، من قبل المحامي الذي توكل عنه، وأحياناً للإجابة عن بعض الاستفسارات. وبعد ثلاثة أيام جاءه البشير بإخلاء سبيله، وقد أعتقل زوج أخته، وأودعت الفتاة عند المختار.
يتبــــــــــع
*- ذكر والدي بمخطوطته أسم صديقه هذا الصريح والكامل، لكني ارتأيت عدم تدوينه، فالعبرة ليست بالأسماء وإنما بالأحداث، إضافة إلى أن هذه الأحداث قد مرّ عليها ستة عقود ومعظم الذين عاشوها قد رحلوا طيب الله ثراهم جميعهم. بعضهم ترك العمل الحزبي لكنه بقى قريبا من الحزب ومنهم "م" وآخرون انقلبوا على الحزب وتحولوا لأعداء.
منذ وعيت كنت أسمع بألم وأسى قصة "م" وموقفه المتخاذل من الوالد، فالخيانة بدأت من أقرب أصدقائه. ولم يكتف "الصديق -م-" بذلك فإنه بعد أطلاق سراحه وعودته إلى النجف استغل بقاء والدي في المعتقل لينشر القصة في النجف بين رفاقه معكوسة!/ الناشر