دراسات نقدية


3- عودة ومصائب وعواصف/ 2

من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

محمد علي الشبيبي

 

محنة المعلم

قيل ما قيل عن المعلم وتكريمه، ما روي عن النبي، وعن الصحابة والأئمة. أو ما قاله العلماء والشعراء المبرزون. أمير الشعراء شوقي جعل المعلم بسبب من أهمية مسؤوليته في صف الرسل! وشاعر العراق "ألجواهري" كاد يسجد للمعلم -لو جاز له ذلك- فالسجود لا يكون إلا لله. ومع كل هذا فلم تجد معلماً واعياً إلا وهو وكر للبلايا والتهم. أي أن المسألة حوله معكوسة. المطلوب أن يسجد للحاكمين، بدءاً من المفتش الذي يحمل قلماً كالسوط، لا يسطر غير الهفوات والزلات التافهة. أما أولو الأمر الأعلون، فنوابهم "شرطة الشعبة الخاصة" ذوو الفهم العالي والحس الدقيق، فسياطهم عشوائية وأشد قسوة!؟

اليوم حين توجهنا إلى المدرسة صباحاً، كانت الريح شديدة، والنهر يصطخب أمواجه، فكأنه هو الآخر ساخط. فوجئنا بحادثين كلاهما مؤلم لنا ومحزن. قبالة المدرسة في الجانب الأيمن، ينتظرنا على العادة الطلبة من سكان هذا الجانب، هم عدد لا بأس به. يجلس على حافة القارب، نحن لم نمنعهم، هم أهل فن في ركوب السفن والقوارب، ومهرة في السباحة، لا يكترث أحدهم أن ينزل في النهر حتى في أيام الشتاء. قاربنا منتصف النهر، فإذا بأحدهم يسقط فيه، وغاص فيه كأنه حجر ثقيل. صرخ زملاؤه، وتصايحوا، وما أسرع ما غاص عدد منهم يبحث عنه، وتجمع الناس من الضفتين، وتحركت قوارب للبحث فيما غاص آخرون من الكبار أيضاً للبحث. وتبين ذلك التلميذ مصاب بالصرع. لو كنا على علم لمنعناه من الجلوس على حافة القارب. وطفا جسده، بعد الزوال بساعة قرب الناحية.

وتلقتنا صدمة ثانية، وجدنا بعض أثاث الإدارة قد سُرق. كراسي ومنضدة المدير، وسجلات المدرسة. حامت الشبهة على ابن رئيس القرية. هذا اعتاد أن يستدين من مدير المدرسة، لكنه لا يفي بما يقترض. القرويون يحتقرون -الصابئة- وهم أيضا يخافونهم. كان قبل أسبوع قد لوح للمدير بحاجته إلى خمسة دنانير، فاعتذر المدير وهو يضحك "راتب المعلم ما يعيش أكثر من عشرة أيام، أحنه براتبنه مثل عرس الجليلو، ثم ما الذي قبضته من الدين السابق؟". الجليلو بالجيم الفارسية، هكذا يسمي القرويون هذه الحشرة، وهي حشرة لها أرجل دقيقة، تأتي أيام فيضان النهر في الربيع يقولون أنها تتلاقح وتبيض وتموت في مدى قصير جداً.

على أية حال أخبر شرطة الناحية، وأتهم صاحبه هذا، وكبست الشرطة بيته، فعثرت على كل ما سرق!؟ وأخذ للتحقيق وأوقف.

في اليوم الثاني افتقدنا القارب، مع العلم إنا نصل به إلى الناحية إلى صباح اليوم الثاني. فهل اللص من لصوص الگرمة؟ المعروف عن قرية أصيبح والعشيرة فيها تدعى الزوطة ورئيسها يدعى "ريسان ﮔاصد". إنها مأوى الهاربين من الجندية -أفرار- والمدانين بجرم قتل أو نهب أو مسألة شرف، وهم جميعاً يعتبرون اللصوصية بطولة!؟

قال بعض وجوه الشيوخ، إن القائممقام إبراهيم السالم قال لرئيس العشيرة، يا شيخ ريسان يبن گاصد، ليش ما تأدب أفراد عشيرتك وتمنعهم من اللصوصية؟ أجابه ريسان: "يا حضرة القائممقام، رجالنا يسرقون بالليل شبيدهم؟ الجوع يلجأهم. لكن أنتو موظفي الدولة من فوق إلى تحت تسرقون علناً وبالنهار؟". إلا أنه واحداً ممن أجاعهم!

وأهتم شيوخ القرى جميعاً فما ينبغي أن يوقف ابن رئيس القرية "...." أما هو فأدلى بإفادة غريبة. قال، إن لي بذمة مدير المدرسة مبلغاً من الدنانير -قرض- ولم يدفعها، طالبته، فأعتذر وقدم ما عثرتم عليه بحوزتي -رهينة- وقبلتها لأفضحه!؟ ولو كانت كسرقة كيف أحتفظ بها في منزلي!؟ ... مهما يكن فقد أطلق سراحه نتيجة ضغط واحتجاج الشيوخ.

بعد يومين وجدنا تذكرة صغيرة معلقة بباب الإدارة "خلوا خمسة دنانير -بالشقلة- يَم العود المثَبَت على حافتهه، ويرجع المشحوف لمكانه!؟". وأعلمنا الشرطة بهذا فوجدت القارب، مغرقاً بالنهر بالضفة المحاذية للمكان المشار إليه.

وجاء المفتش "عبد الحسين الفلوجي" بزيارة المدارس الموجودة في الخط المحصور بين سوق الشيوخ والناحية. زيارة المفتش كانت بعد حادث السرقة. بدأ بمدرستنا، لكنه زار الصف الذي أنا فيه فقط، بعد اختصاره بالمدير. بعد أيام من هذه الزيارة، وجدت مدير المدرسة تبدو على وجهه مسحة كآبة، كان يتكلف الابتسامة. ناولني كتاباً رسمياً وشفعه بقوله، مبروك! تعييني مديراً بدل المدير خزعل كان لأمرين، لنقل خزعل والتخلص من محاولتي العودة إلى الناصرية. ولكني لا أعتبر كرسي الإدارة يستحق أن أعيش أنا وأهلي في مثل هذه القرى علما إني خدمت قبل هذا في القرى كثيرا.

حين قرأت الكتاب الرسمي، تناولت ورقة وحررت ما مضمونه "إني أرفض تعييني مديراً لهذه المدرسة، وأرجح إبقاء مديرها الأسبق فهو معلم مدرك وكفؤ للمسؤولية".

كان هذا حتماً أمراً مدبراً لأبقى في هذه القرية؟! قال أحد معارفي في اللواء، إنهم يعتقدون أن هذا لصالحي، لأبعادي عن عيون "الشعبة الخاصة" والله يعلم. ومدير الناحية والمفوض عبد الحسين فارس قالا، إن العيون تتبعني في هذه القرية. فيا لمحنة المعلم؟!

نداماي

عصر كل يوم أهيئ الشاي، ثم أحضر ما يلزم لعشاء الليلة وغداء غدٍ، هذا خير من لهو في إحدى المقهيين على إني لا أميل إلى هذه الوحدة. كل بقعة من بلادي يلذ لي لو اطلعت عليها جيداً، أليست هذه الفترة جزءاً من عمري؟ وسطوراً من دفتر حياتي؟!

كل ليلة بعد العاشرة، أسمع صوتاً جميلاً في أغاني ريفية، يماشي الرحى، هو صوت "طاقة" الخبازة. في أحد الأيام مرت طاقة وفليفل السوداء الرقيقة، سلمتا عليّ واستأذنتا للجلوس. رحبت بهما. وتساءلت طاقة عن الطبخة التي أعدّها، وكيف أستطيع القيام بهذه المهمة؟ إنها من أعمال النساء!

- الرجال أيضاً يستطيعون ذلك. الملاحون في السفن، والمطاعم في المدن يدير مطابخها رجال.

- وأنت مِن مَن تعلمت؟

قلت: من أمي. الغربة استوجبت هذا مني، أن أخدم نفسي بنفسي. والآخرون "عُبَيد وصاحبه" هم جواري في حانوت أيضاً، ألم تريهم يُعدان طعامهم؟

- موبهل الشكل، أُمَيَت لحم، مرقة أقطين، خوية هذا طبخك بس ريحته وحده كافي؟

وبالمناسبة أخذت طاقة تحدثني عن متابعة شرطة الناحية لي. إنها أوامر اللواء! ومن أين عرفتِ هذا يا طاقة؟ بادرت فليفل وهي تضحك من "منعثر"! أنت ما تعرف الشرطي منعثر، هو يعرفك ويحبك كِثير!

ضحكت طاقة، وكفخت فليفل على رأسها. وشعرت برغبة طاقة فقدمت لها من طعامي ما يكفي. ووعدتهما أن أقدم لهما في المرة القادمة، أي طبخة أخرى لا تتعاطونها. وفي اليوم التالي أرسلت إليّ قطعة من السمك الطري المشوي بالتنور، مع عدد من أرغفة الخبز الحار، وإنها وصاحبتها ستأتيان لشرب الشاي عندي!

فيما نحن لا هون بالحديث أثناء تناولنا الشاي، مرّ فتى مذموم، له جمال رائع. فقلت لفليفل:

- ما رأيكِ لو كان مثل هذا الجميل زوجك؟!

- وَي، غَدي، بَرّه، بَرّه. والله يعمي من يمر الأبيض ما أحس بيه، ولو مرّ الأسود يصفج قلبي تصفج!

قلت أنا أمزح يا فليفل، ونوري شاب شهم وحباب، ورأيك هذا دليل عفتك ونزاهتك. ولحظت على وجه طاقة علائم تأثر بين الخجل والألم؟ فقلت وكأني لا أعرف شيئاً عن علاقتها بمنعثر، طبعاً طاقة أيضا مخلصة لزوجها الطيب منعثر!

- أي كلمَن ونصيبه يبو كفاح، هذَ مال طمع، شلون ما يكون هوّ شرطي! جاعِد مستأجر، لكن أنت تدري بالشرطي؟ وآنه وحيدة، أعيش من هالتنور!

مسكينة إنها تدفع التهمة عنها. ما يدريني لعلها صادقة. أنا أعرف ناس هذه القرية، أهل قيل وقال.

ماذا أفعل. الوحدة موحشة، أطردها بالنكتة مع المار إذا سلّم، أو وقف يتفرج على مشاغلي. كناس البلدية الوحيد "هويدي الأطرم" يجلس إليّ أيضا فأنادمه، وأكلفه أيضاً أن يجلب لي الماء من وسط النهر لا من الضفاف، وبواسطة قارب يأتي به حسب الطلب. ضفاف الأنهار يزرعها القرويون بالغائط، الصغار منهم والكبار. ويتطرفون في قعودهم قريباً من الماء، والإصابة بمرض البلهاريزيا هنا منتشرة بفظاعة.

المعممون الذين يفدون إلى القرية لا يهمهم غير موضوع الوضوء والصلاة، وأغلب حديثهم عن الكفارة، الزكاة، النذر، وغرامة طفار البول، والعقيقة والديك الذي يقودها يوم القيامة. هم يقولون للقرويين البسطاء، عندما يقدم ثمن نعجة -عقيقة- يذبحها المعمم بدلاً عنه معها ديك، يدلها يوم القيامة على الطريق إلى صاحبها. وغرامة طفار البول مقدار من السَمن بحيث تكون كميته كافية لتغطية القدمين والرسغ تطهيراً لها من البول الذي يتطاير.أما النظافة، وواجب المسلم، ومعنى إسلام، والمحرمات، والسطو واللصوصية، هذا مالا يهمهم. طبعاً هذا لا يفعله الفضلاء من المعممين.

جلس هويدي يحدثني، وأحدثه، داعبته، إذ رددت وكأني أغني -خياط فرفري-، وسألته، شنو يعني خياط فرفوري يا هويدي؟! أجاب متلعثماً، جا عمي انه أعرف أنكريزي؟!

في هذه الأثناء حضر جهاد ملاح قارب المدرسة. وأنا غارق في الضحك. هو لا يدري إني أنا أيضاً لا أعرف الإنكليزية. وأستفسر جهاد عما يضحكنا. بهت وقال، آنه أعرف الفرفوري، لكن، هو يتخيط؟ جائز أكو قماش أسمه فرفوري!. ثم سأل، عمي العطلة قُربت، تظَل عند هلك، لو تسافر للخارج؟

- الخارج وين يعني؟

- بغداد، غيرهه!

- أسافر إلى "لوكسومبرغ". قلتها هازلاً.

صاح جهاد مستغرباً، لا عمي ماتحجي فِشَر!؟

في هذه الأثناء مرّ نوري تصحبه زوجه فليفل، سلمَ وقال، جيت أهنيك!

- بماذا يا نوري؟

- كنت باللواء، وجبت وياي من المديرية لمدرستنه ومدرستكم مكاتيب رسمية. قال كاتب الذاتية، بَشِر المعلم علي فهذَ كتاب تثبيته.

سبحان الله. لِمَ أنا دون كل من فُصل معي، أعيدوا جميعهم، بينما تغمط حقوقي؟! صحيح إن العادة إن المستخدم، يفصل حالما يوقف، لكني سلمت من هذه القاعدة. ذلك بفضل تحطيم الشعب لمعاهدة بورتسموث ولكن الثعلب -وكيل بريطانيا- سوف لن يترك هذا الفوز، بدون انتقام وردة أكبر. لقد ورط صالح جبر وهو يعلم أنه أعجز من أن ينجح، هذا شرف يريده له فقط. هو وحده الذي يجب أن يحتل المقام الأول عند التاج البريطاني.
صاحبنا الشيعي المقدس السيد محمد الصدر وقد صار رئيس وزراء بعد انتفاضة الشعب لتحطيم معاهدة بورتسموث، أحتل المقعد الرئاسي بعد صالح، لتهدئة الأوضاع. لكنه أيضاً أعلن الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيش المقاتل في فلسطين.

أخذت الجماهير تتداول بالسر فيما بينها أغنية قالوا، إن المغني الريفي حضيري غناها فأوقف "عمي يبو لحية نايلون ردتك عون طلعت فرعون!" لا أعتقد صحة هذا.

هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءآء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم ....

حمامـة الٍسـلام

كل ما حولي يبعث على السأم، انتهت الامتحانات، لكننا طبعاً نبقى إلى أمد محدود، وجو ناحية -ﮔرمة بني سعيد- مسئم أيضاً، الدوام مريح لي نفسياً. ففي الذهاب إلى المدرسة، والعودة منها، أمتع النفس بمنظر النخيل، والفلاحين والمزارع. أما جو الناحية فراكد. حتى الصحف لا أحصل عليها دائماً.
في جريدة "ألأساس" بتأريخ 5/5/1948 قرأت لأخي "حسين" قصيدة يحيي فيها عيد العمال "الأول من أيار" فيها يعلن استمراره على السير في طريق النضال بفخر واعتزاز، من أبياتها:

أيـــومك أم يــــومنـا الأوحـــد ومن يـــومه بــدم يـــــولــــــد

ومن فجــــره مثلمــا فجـــرت رقـــاب على أفـــق تحصـــــد

وأيهمــا ليس يــرضى الفنـــاء إلا ليـــــولــد منه الــغــــــــــد

فأيـار للـــزهر والصــارحـات وأيار للــــكادح الـمجهـــــــــد

كلانا له من ربيـــع الـحيـــــاة يــــــــــوم فـأيهمــــا خلـــــدوا

وذكــراك أيـــار تهتــــــاجنـــا إذا ما ذكرت جــــوى تـوقــــد

من الـحقــد ما ذره الطامعـون تخســـا أو تســـعف أو تنجـــد

تســاميت أيــــار في واحــــــد نُسِـــبتَ له وهـــو الأوحـــــــد

ألســنا الــرعاع؟ فمن روعـوا ألسـنا الـجيــاع؟ فمن هــــددوا

ألسـنا الطعـام؟ ألسانا الشـراب وما اعتصروا روحنــا واليــد

لنصرخ إذا. ومن المســتجيب وهذي السجـــون لمن أوجدوا

وهذي الكبــول بمن أوصــدوا وهذا الســــلاح لمن ســـــددوا

وهذه القــــوانين ما حكمهـــا؟ وهذا الجحيـــم بمن يــوقـــــد؟

لهم ولكي لا تكـــون الـحيــــاة شــــقاء لنــا ولهــم تســــــــعد

دماء الـضحــايا أجَــل الــدماء على مذبــح البغي تســـتنجــــد

ومن غيرنا يســـتجيب النــداء وهل في المغــاوير من يرقـد؟

هو اليوم ذكرى الكفاح المرير تبـدّى وقـــد عذب المـــــــورد

بنـــاة إذا ما هـدمنـــا الشـــقاء وعالـمنــــا العـــالم الأســــــعد

ســــنهـدم أركان ما شـــــيـدوا فلا الـعبــــد يبـقى ولا الســــيد

عشت في قرى عشائر الفرات القريبة من النجف. الحق إنهم كانوا أهل وعي ويقظة. رؤسائهم والفلاحون كانوا شديدي الاهتمام بالأحداث -العالمية والداخلية- علاقتهم مع الموظفين وبالدرجة الأولى مع المعلمين، يزورونهم، يدعونهم، يخوضون معهم مختلف الشؤون بمودة، حتى مع الذين يحسبونهم ذوي فكر يناوئ القبيلة والإقطاع! أما هنا فحياة راكدة ركود ماء الجفار! (والجفار نهر في ﮔرمة بني سعيد حيث لا ينتفع به). الصحف تثير المخاوف، إنها تعاني المتاعب، كلها تشير أن الخيبة مرّة. حمامة السلام، ليس إلا ظل خادع! هو كما يعتبر الفلاحون -فزاعة خضرة-.

الوكيل العام، في شغل شاغل، لرسم الخطط، لتسيير السفينة، كما يشتهي السَفَنُ لا الركاب؟! الصحافة الوطنية، مستمرة تفضح النوايا، وتشجب قيام الأحكام العرفية، وتمارس أجهزة القمع شتى الضغوط ضد الفئات الوطنية. حمامة السلام يلقي ظله ليحمي القائمين بكل ذلك من انتفاضة جديدة. لا يجري هذا في بغداد حسب انه حدث في كل بلد، عرف عنه النشاط الوطني. في الألوية التي يسيطر عليها الإقطاع، يتجول مسلحون من قبلهم ليهددوا الناخبين كيلا ينتخبوا غير مرشحي الحكومة، تسندهم الأحكام العرفية. بعض الأحزاب الوطنية والتقدمية حُلت منذ زمن، وبعضها خاض معمعة الانتخابات -جرت الانتخابات في 15/6/1948-، وقدموا ضحايا و أكثر؟ ثم فاز بنذر ويسر من مرشحيه! الشيوعيون قاطعوا الانتخابات تحت شعار "لا انتخابات حرة والأحرار في السجون!". أساليب الانتقام والتشفي من كل فئة وطنية شاركت في الوثبة. كل هذا تمهيد وتنظيف الدرب بانتظار دور الوكيل العام لتحقيق هدف الاستعمار البريطاني.

والمضحك في الأمر النفاق في سياسة حمامة السلام، فإنها في الوقت الذي سيق فيه المليونير اليهودي "شفيق عدس" إلى المحاكم، بتهمة مساعدة الصهيونية، سيق عشرات الشباب وقادة النقابات والشخصيات الوطنية، إلى المحاكم أيضاً.

وفي أعقاب عملية الانتخابات، قدم "صدرنا" استقالته، وجاء مزاحم الباججي وشكل وزارته هذه في أواخر حزيران 1948. لقد حلقت الحمامة مع الغربان، مستعيرة لونها، وعادت غير قادرة على استعادة لونها الأول، الذي كان يستر حقيقتها.

أعود، أتحدث عن المدرسة والامتحانات، أية امتحانات، لقد صفيناها خلال يومين؟! ودعينا إلى وليمة. التاجر حاج حسن أول وآخر من تفقد المعلمين. لبيت الدعوة مع زملائي "معلمي مدرسة الـﮕرمة و أصيبح" وقبيل الغروب توجهنا إليها، هناك حيث النخيل المكتظ، تنتصب قبة عادية على ضريح لدفين يدعى سيد سلمان. القرويون هنا وهم يتحدثون قَسَمهم بضريح سيد سلمان.

مدير المدرسة محمد رشيد، أو كما يلفظه أكثر الزملاء محمد رشيده، ذو لسان ثرثار وعقلية متحجرة، لهجته مقيته، وثقيلة على السمع. مما يروى عنه، إن مفتشاً زاره مرتين متباعدتين، في الصف الثاني أثناء درس القراءة، فوجده ما يزال يدرس "الخروف لا يعبر النهر" أبدى المفتش استغرابه! فجذبه محمد رشيده من يده بقوة وقال: "أتفضل آنه أطلع، وأنت شوف أشلون تعبرهه؟!"

وحين كان بمدرسة تدعى الفهود طالب مرات عديدة بنقله منها فما أستجيب له، فخرج على جلاس المقهى، وقد صعدت برأسه "العقار" حاملا بيده نعله، وصاح: "يا أهل الفهود! أني أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها وإني والله صاحبها؟" ثم مر عليهم واحداً واحداً صفعاً بنعله؟! وجاء النقل بعد ثلاثة أيام. ولكنه أيضاً لإدارة مدرسة؟!
قبل أن أغادر الناصرية طالبني كاتب الذاتية أن أبعث إليه بشهادة الجنسية، من أجل تثبيت عمري في دفتر

الخدمة! لقد فات الأوان. الشهادة في النجف ودفتر النفوس ثبت عمري فيه خطأ. إنها خسارة لمثل معلم مثلي، لا استقرار له فهو دائماً في مهب الرياح! مواقف، فصل من الخدمة، اعتقال والعودة كمستخدم، لا كسائر المفصولين في إعادتهم. لا بأس فلأدن كما يدين الآباء، كل شيء بقضاء وقدر؟!.
 

يتبـــــــــــــــع
 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com